مروة مهدي عبيدو*
عالمان مختلفان ومتشابهان، بينهما بحر، يقف رافضاً بعناد الوساطة بينهما. من أراد العبور إما أن يملك رفاهية الطيران فوقه على أجنحة من حديد، أو عليه أن يقبل المغامرة بالحياة، مقابل أمل بتحقق حلم بعيد.
تبقى بين العالمين صور متقطعة ومشاهد مكررة وصامدة، تختلف فقط في ألوان الخلفيات وصوت اللاعبين، ولون رائحة الخوف التي تسيطر على الأفق. أما أنا فبقيت معلقة بينهما في الذاكرة، تحييني صور من هنا، وتؤلمني صور من هناك، أحيا العالمين، وأقف مكاني بلا حراك… بلا زمن!
هنا:
أتذكر صورتي وأنا أشعر بنوع جديد من السعادة، حين رأيت تساقط الثلج الأبيض من السماء لأول مرة، حين نزلت إلى الشارع الواسع لأتابع تحوله إلى البياض شيئاً فشيئاً، مشاعر خاصة من البهجة ارتسمت فجأة في قلبي، استعيدها عاماً بعد عام. هي نفس المشاعر التي تنتابني وأنا اتتبع روائح الربيع، وألوان الأشجار التي تتحول في الخريف، لتتغير ألوان الخلفيات، وتمهد للحظات الصيف الحارة المباغتة. تحمل ذاكرتي أيضاً صوراً عدة لوجوه أطفال من الجوار، لا أعرف عنهم إلا ابتساماتهم لي، ونظرات بريئة تتعلق بي كلما التقينا مصادفة.
صورة وجه جارتي العجوز تفرض نفسها على ذاكرتي دائماً رغم قدمها، تلك المرأة التي طالما قابلتني بابتسامة وحكايات كثيرة عن أولادها ورحلة حياتها الطويلة. كانت تحكي نفس الحكايات كلما التقينا صدفة، أمام المصعد أو داخله. لم أكن أعاتبها على التكرار، بل كنت أقدر أنها كانت تبحث عني، لتستعيد عالمها المفقود من خلال دهشة في عيوني، لتتأكد أنها لم تفسد اللعبة بعد، بل ربما نجحت في الوصول لبعض من أحلامها. غابت جارتي لأسابيع، وعلمت من الجيران انها مرضت بالزهايمر والتزمت المستشفى. التقيتها مرة أخرى قبل وداعها للحياة بأيام، ابتسمت لي كعادتها، رغم أنه بدا عليها أنها لم تعد تعرفني، وقالت: “أنا لا أذكرك تماماً، سامحيني… إنها لعنة المرض، لكني أذكر صدى مشاعر طيبة في قلبي لك”!
هناك:
بهتت خلفيات صور طفولتي من هناك بفعل الزمن، لم يبقَ منها إلا أصداء باهتة، لم يعد لها وجود في الواقع. لقد هدموا مدرستي القديمة ولم يعد لها أثر، حتى اسم الشارع الذي ولدت فيه قد تغير، وتلك الشجرة التي زرعتها أمي أمام منزلنا، والتي كبرت معنا عبر السنوات، تم إزالتها. كما تم هدم منزلنا القديم وبناء عمارة عالية محله. كل الوجوه التي عرفتها قد اختفت، وحتى الروائح التي عهدتها قد تلاشت تماماً من مدينتي. وكل ما أحمله معي في الذاكرة بدأ يبهت، رغم محاولاتي الدائمة للحفاظ عليه كجزء من تاريخي: وجه جدتي البعيد جداً، تجاعيد وجه أمي التي تزداد عدداً كل مرة ألقاها فيها، صوت أمي الذي يهدأ صداه مع الزمن، صور أبي التي تاهت بين أكوام الأوراق القديمة، أول الحروف التي سطرتها كطفلة على شاطئ البحر… والكثير من الأشياء التي لم يبق منها إلا ذكرى للحظة مرت علي أنا فقط، لم يعشها غيري، وكذلك هو وطني هناك. لابد أن أعترف رغم الألم، أنه لم يعد لمدينتي الأولى وجوداً هناك!
ما بينهما:
في كل المرات التي عبرت فيها بين العالمين على أجنحة حديدية، رأيت المتوسط وشاهدت بعضاً من صور حفظها متعمداً بين الضفتين. تلاحقت الصور متوازية مع مشاعر الخواء التي تنتابني دائماً في لحظات عبور الحدود، حيث تحول المتوسط الشاسع إلى مجرد خط أزرق، يخفي أكثر ما يكشف، ويخبئ في طياته صوراً متلاحقة ترصد تاريخ العالمين:
على الحدود بين هنا وهناك ، وقف أب وسط الظلام القاتم في مواجهة أبنائه، وفي يده بعض من ستر النجاة، التي لن تكفيهم جميعاً، وفي الخلفية أصوات أمواج البحر المتلاطمة بعنف. أخذ الأب يوزع نظراته بين أبنائه، وهو يحارب الكلمات التي آلمته قبل أن تخرج، وهمس لهم لينهي الأمر في أسرع وقت: “لا تشغل بالك بغرق أخيك… أسرع إلى النجاة بنفسك، حتى نقلل الخسائر قدر الإمكان، ركز عيونك على النور الخافت في الناحية الأخرى من البحر، لا تنظر خلفك، واستمر حتى لا يبلعك المتوسط. لا تخافوا يا صغاري، الموت في بلادنا ليس خياراً، بل على الضفة الأخرى احتمالية أكبر للحياة!”.
على نفس الشاطئ هناك وبعد ذلك بقليل، صورة لجسد صغير لطفل ملقى بلا معطف للنجاة، رأسه باتجاه الغرب، وقدماه تميلا بزاوية مغلقة باتجاه الشرق، ورائه وطن متكئ على جثث موتى، وأمامه أطراف حلم بحياة. لم يستطع جسده الضعيف العبور من هناك إلى هنا، قذفته الأمواج إلى هناك رغماً عنه، ورمت به ساكناً على الشاطئ، وصارخاً في صمت في وجه قبح العالم.
أهمس لك يا صغيري: “ليس على هذه الضفة من البحر حياة، بل قتل بطيء للمارين والعابرين إلى هذه الناحية، حفاظاً على مصالح ليس لنا فيها شيء، أعداء لا تراهم، يتسلحون بالكلمات الرنانة، يتنكرون في صور كثيرة، ويعدونك بالأمل في تحقيق حلم بحياة، وبحجة الأمن يرصدونك، يعرفون مكانك ويتابعونك بكاميراتهم، يشاهدونك عارياً تماماً حتى من إنسانيتك، يقودونك باحتراف إلى حالة الصفر/ الموت حياً. هم وحدهم من يقررون عبورك أو نفيك أو موتك، وهم أيضاً من يقررون فجأة إغلاق الحدود أمامك!”.
إنها سياسات العالم التي تجمعنا وتفرقنا، إنها قسوة قلوب البشر، وعيون المصالح وعقود الأسلحة، تلك التي صنعت الحدود بين هنا وهناك، والتي مازالت تحكم وتنهي، تقرر منح الحياة أو سلبها، هي وحدها من تسمح للعالمين بالحركة أو بالثبات، ومن تسمح لنا بالحياة هنا أو بالموت هناك!.
* ناقدة وأستاذة جامعية، حاصلة على درجتين للدكتوراه في علوم المسرح وفنون الأداء.