طارق فكري*
ثمة جملة يتمّ تداولها مؤخراً بين جماهير شعوبنا العربية تقول: “لا ديمقراطية ولا سياسة، خلينا في أكل العيش وتربية الأولاد”، بناء على هذه المقولة، ثمة بعض الأشياء التي ينبغي مناقشتها مع معتنقيها.
بداية لا بد من القول بأن الشعوب العربية أدركت معنى الديمقراطية بعد مشاركتها في الربيع العربي المغدور به، وأصبح واضحاً نوعاً ما لدى المواطن العربي ما القصد من المفهوم القائل بالحكم والتداول السلمي للسلطة عبر مؤسسات سياسية وآليات اختيارية (انتخابات)، وهذا مفهوم لا بأس به يؤهل الشارع العربي لخوض النضال السياسي السلمي لانتزاع حقوقه والقيام بواجباته. ولكن السؤال المطروح هنا: هل رغيف الخبز مُقدّم على الديمقراطية أم العكس؟
رغيف الخبز يعني الاقتصاد ودخل الفرد وانتعاش السوق من حيث حركة البيع والشراء، وانخفاض معدل التضخم، وهذا كله يحتاج لحجم استثمارات وطنية وأجنبية متّزنة، كما يحتاج لحجم مُرضٍ من الصادرات تخرج من الدولة لتعود عليها بالنقد الأجنبي الذي من شأنه أن يرفع من قيمة عملة الدولة؛ وبهذا لن ترتفع أسعار السلع المستوردة من الخارج ولن تؤثر على زيادة التضخم. ونرجع لنسأل هنا من يملك بناء ذلك وتحريكه؟ مما لا شك فيه أن النظام السياسي هو المنوط به عمل هذا الحراك الاقتصادي، الذي سيلمس أثره الفلاح في حقله والتاجر في متجره والمهندس والعامل في مصنعه وربة المنزل عندما تنزل للسوق، ولو صَلُحَت السياسة لصَلُحَ الاقتصاد، وأكبر مثال على ذلك هي الصومال، ففي مفهوم العلاقات الدولية الصومال دولة فاشلة، تعيش مجاعة بشعة بعد أن ضاعت منظومتها السياسية، أما في حالة الدول التي تحكمها نظم ديكتاتورية فالأمر يختلف تماماً، حيث الفساد حكر على الصف الأول وتوابعه من الساسة ورجال الأعمال الداعمين والمساندين للنظام، والأمر يذهب أعمق حيث يقوم النظام بمحاربة الفساد البعيد عن محيط دعمه ومساندته، وربما يضحّي بأحد داعميه ليصنع بذلك دعاية له كمحارب للفساد، كما يقوم بمحاربة رؤوس الأموال المعارضة له سياسياً، وهذا كله من شأنه أن يطرد الاستثمارات الوطنية ويوقف تدفق الاستثمار الأجنبي، ويلقي بمخصصات الدولة وأراضيها غنيمة في أحضان داعمي النظام.
لكن حكم الفرد ووجود مؤسسات سياسية كرتونية لتمرير سياسة الديكتاتور لن تُصلح الاقتصاد ولن تحفظ لنا رغيف الخبز، بل ستبارك خطايا النظام ليحتل حياة العامة والفقراء والمحتاجين من الشعوب الذين لا يجدون عيشة كريمة ولا حياة مستقرة، فقد سرقها منهم صُنَّاع الديكتاتور وسدنة الاستبداد، ولمَ لا فالناظر لدول مثل الهند أو بنجلاديش أو غيرها يجد أن الشعب له حياة تختلف عن حياة رجال الأعمال والساسة الداعمين للنظام، فاللأول مدارسه الفاشلة المتهدمة، ومستشفياته ذات الخدمة المتدنية، الماء غير النظيف والطرق المهلهلة، أما الثاني فله مدارسه ونواديه ومستشفياته حيث الخدمة الجيدة والنظافة العالية.
الديمقراطية تصنع نظاماً سياسياً يعمل لأجل الشعب لا لأجل نفسه، كما ينشئ مؤسسات سياسية خادمة للشعب ورقيبة على النظام السياسي. والحاكم الذي يأتي في ظل قمع واستبداد لم يأت به الشعب، بل أتى رغماً عنه، لذا فهو لا يعمل لصالح شعبه إنما يعمل لصالح أنصاره ومعاونيه، والحاكم الذي يأتي تحت ظلال الحرية ووليد عملية ديمقراطية ناجحة هو صناعة شعب لا يحيد عن إرادتهم ولا يخالف أحلامهم.
الحقيقة الديمقراطية لا تتعارض أبداً مع رغيف العيش، لكن خوف الناس من قمع المستبدين وبطش الأنظمة الديكتاتورية هي ما حملهم على هذه المقارنة أو المفاصلة، وتناسوا أو تجاهلوا أن رغيف الخبز على مائدة الديكتاتورية مُسمم، وأن الموت تحت الاستبداد بطيء، حيث الجهل وإفساد المجتمعات وتدني مستوى الصحة والتلاعب بمقدرات الأمة ومستقبل أجيال قادمة.
في النهاية ربما تكون ضريبة الديمقراطية باهظة للفرد، ولكنها قليلة جداً إذا ما قورنت بترك الديكتاتورية في حياة الشعوب والأمم. فالدول الغربية وما تنعم به من حياة كريمة وعدالة اجتماعية، وتقدم ورقي مادي وحقوقي، ليس وليد اليوم، بل هو نتاج تاريخ قديم من التضحيات والثورات والمواقف حتى حصلوا على حريتهم مدعومة بديمقراطية حقيقية، وما الثورة الفرنسية عنا ببعيدة، حيث مكثت عشر سنوات عانى الشعب خلالها من الأزمات الإقتصادية والقتل والسجن، ولكن كل هذا ثمن زهيد لو قورن بما تنعم به فرنسا اليوم من حرية ورفاهية للشعب وتقدم وريادة لدولتهم عالمياً.
* كاتب وباحث سياسي من مصر
خاص أبواب
إقرأ/ي أيضاً للكاتب: