سناء النميري. ناشطة لبنانية مقيمة في ألمانيا
في ١٧ تشرين الأول، استرد الشعب اللبناني أنفاسه كطائر الفينيق وانتفض من رماد السياسة.. احتفل اللبنانيون بالأمل وكسروا الخوف ونزل الآلاف إلى الطرقات. ولكن اليوم وبعد أسابيع من المجزرة التي دمرت بيروت، اختفت الآمال وزادت رغبة اللبنانيين بالهجرة. تحدثتُ مع شابات وشبان من لبنان عما تبقى لهم، وهذا بعض ما قالوه:
عاد علي فايز إلى لبنان قبل الانفجار بشهر تقريباً، وها هو الآن بعد كارثة المرفأ يبحث عن وطنٍ آخر يكون ملاذاً له، قال لي: “أكيد بدي فل، ليش بدي إبقى، كرمال إبكي عمستقبلي، الانفجار دمرنا ودمر كلشي حلو”.
بيروت المحفورة في قلب علي لم يبقَ منها غير الصور وبعض الذكريات في طرقات وبيوت مدمرة، ورائحة دم الذين ماتوا”، لكن لم يبقى شيء له في هذه المدينة، ” قتلوا بيروت وذكرياتنا فجروها، فلماذا عليَّ البقاء؟”
قرر علي الذي يبحث عن طريق جديد للهجرة أن يحفر وشم بيروت على يده وقال: “كرمال كل ما شوف الوشم إتذكر بيروت، ولما موت رح آخدها معي، بيروت حلوة كتير ويلي فيها ما رح يرجع من ذكريات وشهداء ودمار، لو عمروها من ألماس أكيد رح فل..”
“بلادٌ تولد فيها وتتمنى في كل لحظةٍ أن تهاجر”
تابيتا غسان ملعب، إبنة العشرين عاماً، كانت تمضي معظم وقتها بين الجميزة والحمرا ومار مخايل، لم تتعرف على بيروت وشوارعها بعد الانفجار، المدينة التي كانت تعج بالفرح والحب، تشوهت ملامحها بعد الانفجار الكارثي، امتلأت شوارعها ببرك الدماء وتحولت إلى خراب.
بعد الانفجار انعدم شعور تابيتا بالأمان في وطنها، وزادت رغبتها بالهجرة: “هذا الانفجار قتلنا فعلياً، قتل الأمل فينا، مدينتنا مابقى قادرة تتحمل دمار.. أنا فاقدة الأمل من لبنان، وهلق زادت فيني هالرغبة، وين ماكان.. المهم ما ضل هون”.
سارة لاوند، 24 عاماً، عانت في لبنان كثيراً لإيجاد فرصة عمل لها بسبب ارتدائها للحجاب، رغم أنها تملك من الشهادات والكفاءات والمقومات ما يكفي للحصول على وظيفة.
قبل الثورة كانت تفكر بالسفر إلى الخليج للعمل، لكن بعد ٤ آب زادت رغبتها بالسفر كغيرها من اللبنانيين الذين يبحثون عن الأمان: “إنو أنا بس بدي هاجر، بدي أمن حياتي” سارة تريد أن تؤسس لحياة ثانية، فقدت الأمل بالتغيير أو تحسين أي شيء في لبنان. “الله أعلم وين رايحين”. وها قد بدأت البحث عن طريق قصير تستطيع من خلاله الهروب إلى بلد يناسبها ويكون ملجأً لها. “ما فيي أنطر ما عندي وقت، بدي هاجر..”
الانفجار جريمة.. وليس فرصةً للهجرة
شباب لبنان الذين نزلوا إلى الشوارع من كل أنحاء البلاد كيلا يتركوا بيروت وحيدة، مع الموسيقى الحزينة نظفوا شوارعها ورمموا بيوتها. وأحسوا أن الحياة انتصرت على الموت، وأن هناك أمل بالعودة للحياة.
“نسيم زويني” ابن الأشرفية، الذي نجا بأعجوبة بعد كارثة المرفأ لم يفقد الأمل: “الكارثة التي ألمت ببيروت تمزق القلب”. لكنه قرر البقاء في وطنه، هو يرى أن الانفجار جريمة كبيرة وليس فرصة للهجرة، بل على اللبنانيين محاسبة الفاسدين، فهذا الانفجار كان الدليل القاطع على أن من يحكمون لبنان حالياً يستحيل أن يعمروه، لم ولن يقدموا لنا غير الدمار والخراب والحروب والدم، “إذا بدنا نعمر لبنان، نحنا بدنا نعمروا مش هني”
فنسيم يرى أنه قادر على تغيير شيء ما، وبيروت بحاجة للجميع، هناك بصيص أمل بأن شيئاً ما تغير، لهذا يرفض الهجرة، ومصمم على المواجهة ومحاربة الفساد والمنظومة السياسية الحاكمة ومساعدة الناس. “لازم ضل هون لساعد الناس الموجودين، إذا انا فليت مين رح يبقى، ويلي مش قادرين.. نتركهن وحدن؟!”
ريان لحبيبته: “هل تعيدين بناء المستقبل معي؟”
فقد ريان عواد عمله ومنزله بسبب الانفجار، لكنه قرر أن لا يستسلم وأن يتحدى القدر ويواجه الصعوبات. كان ريان في ٤ آب يحضر لحفل خطوبته، أصر أن يستمر بالتحضير لخطوبته، وبعد أسبوعين قرر أن يطلب يد حبيبته لوتشيانا بطريقة مؤثرة، واستبدل عبارة “هل تتزوجينني” بعبارة “هل تعيدين بناء المستقبل معي”.
قال ريان لأبواب: “ما بدنا نفل.. بدنا نبقى ونعمر سوا مستقبلنا اللي انهدم”. لديه أمل بالتغيير، ولن يهاجر ويترك البلد على طبق من فضة للفاسدين “بعد أن دمروا بيروت ودمرونا”، وأضاف: “هلأ صار الوقت، وقت نحارب أكتر ضد المافيا التي تحكم البلد، ما رح نستسلم، صار الوقت نعمر لبنان”.
بدي فلّ وآخود أحلامي، بس ما فيي.. حلمي اللي هون أكبرْ
ندى جون يناجية أخرى، كان بينها وبين الانفجار دقائق معدودة، شاهدت الغيمة التي تلوّنت سريعاً، من حمراء إلى سوداء إلى رماد سام، في سماء المرفأ، “شفنا الموت بعيوننا، شفت شو يعني سلطة قتلتنا، قتلت شعبها”، تقول ندى والدموع تسبق كلماتها، فتخرج لاهثة متقطعة.
“الفساد الذى حوّل لبنان لكتلة من اليأس والألم والفقر والجوع، بعد أن كان يضج بالحيوية والفرح خاصة بعد ثورة تشرين التي أعادت الأمل لأغلب الشباب”.
تحكي ندى كيف لا يوجد ديكتاتور واحد في لبنان، بل دكتاتوريون كثر، أحزاب السلطة الدينية والسياسية. والانفجار ما هو إلا جزء من الفساد الداخلي الذي يعانون منه، فساد طبقة حاكمة لا تعمل إلا لمصالحها الشخصية والحزبية وتحالفاتها المشبوهة، وآخر همها الشعب، وحتى الآن لم تعتذر من شعبها عما ارتكبته. وتضيف: “في لبنان ندعي الوعي والثقافة والديمقراطية والحرية، بينما هو أكثر بلد يقمع مواطنيه، وكثيرون قبلوا بالذل كرمى للزعيم”.
تتمنى هي أيضاً أن تترك البلد إلى حيث الأمان والاستقرار، لكنها لا تستطيع فلديها حلم آخر أكبر رغم اليأس، هو حلم أختها نادين جوني الناشطة النسوية، “أم كرم” السيدة التي تحدت المحاكم الشرعية في لبنان، ورحلت عن عالمنا دون أن تحصل على حقها في حضانة ابنها، فندى تريد أن تحقق حلم أم كرم بابن أختها كرم.
أريد لأطفالي مستقبلاً بلا خوف..
تهاني محجوب، أم لطفلين تعيش في بيروت وتعشقها، لم تفكر يوماً بمغادرتها، لكنها لم تستطع تجاوز الصدمة، تفكر فقط بمستقبل أطفالها الذين يبكون ويهربون فزعين لدى سماع أي صوت. كل شيء صار مرعباً بالنسبة لهم حتى النوم أو الشعور بأي قدرٍ من الأمان والاستقرار والحياة الطبيعية كل شيء أصبح في غاية الصعوبة.
تفكر بعائلتها وبكل ملامح البلد التي تحبها وبكل من حولها.. قلبها يتقطع لكنها تريد أن تحمي أولادها وتهيء لهم مستقبلاً بلا خوف.. لهذا ستهاجر.
بيروت التي يتسع قلبكَ بالأمل عندما تمشي في شوارعها تستحق واقعاً أجمل، وأهلها يستحقون حياة آمنة. عاصمتنا عودتنا أن تبقى قوية، وهي ما قبل 4 آب ليست كما بعده، ويوماً ما ستحاسب من فجرها، وستتعالى صرخات المظلومين الشهداء والجرحى والمنكوبين في وطني مدويةً في وجه الفاسدين الظالمين، ستنبض بالحياة مجددًا.
ستقوم بيروت ما بعد كارثة المرفأ من تحت الردم، وتعلن الانتصار.
اقرأ/ي أيضاً للكاتبة:
“معيدين” في ألمانيا.. وقلوبنا ليست معنا
أنشطة متنوعة لسيدات برلين.. “فطور بنات مع التمكين”
رمضان في ألمانيا كيف يتعامل المهاجرون مع يوم الصيام الطويل وأعباء العمل والدراسة؟
الناشطة الاجتماعية “سناء النميري” تفوز بجائزة GoVolunteer Awards 2019 للعمل التطوعي