من الممكن اعتبار كتاب “نظيرة زين الدين”: “السفور والحجاب”، الصادر العام 1928 عن مطابع قزما في بيروت، من أشهر كتب القرن العشرين التي ساجلت في مفهوم الحجاب والسفور.
أهميته آتية من ريادة النص ذاته، ومن كون كاتبته امرأة في وقت كان التعليم حلماً بالنسبة للنساء، فهي من الشخصيات النسائية القليلة في التاريخ العربي الحديث التي برعت في مجال التفسير الديني، ومن انتمائه إلى مدرسة التجديد الإسلامي التي كان لها تأثير كبير في خلخلة جمود المؤسسة الدينية.
ولدت “نظيرة زين الدين” في بعقلين لبنان العام 1908، وأصدرت كتابها وهي في العشرين من عمرها، وبالرغم من صغر سنّها تصدّت لمسألة شائكة هي “الحجاب”، واعتبرت إنه لا يجوز قياس حركاتنا وأعمالنا على مقاييس الجاهلية والأمم القديمة من عبدة الأوثان، ولا أن نقيس أنفسنا على نساء الرسول.
يمكن تقسيم كتاب “السفور والحجاب” إلى ثلاثة أقسام: الأول اختص بالأدلة العقلية والمساجلات التي تتعلق بالحرية والسفور، والقسم الثاني اختص بالأدلة الدينية وتفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية للسفور، وفي القسم الثالث ترد المعارضات والردود على مقالاتها من قبل كبار القضاة والشيوخ، كما ترد ردودها ودلائلها ذاتها الواردة في الأقسام السابقة. ومن الجلي أن “نظيرة زين الدين” كانت متأهبة لاحتمالات الهجوم عليها فدعت معارضيها سلفاً للحوار والجدال العلمي، وهي ترى أن على كل من شاء أن يقنع الفريق الآخر بالدليل والبرهان أن يتذكر آية من سورة الإنعام كدليل: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
وينبغي ألا نقبل حجر بعض الفقهاء على عقولنا وتهديدهم بالمروق كل من يعمل بعقله. لكن لم تتوقع نظيرة ووالدها الشيخ والقاضي “سعد بك زين الدين”، الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في الجمهورية اللبنانية والذي كان له كبير الأثر على نتاجها، كل ما حدث! فقد سيقت المظاهرات الغاضبة ضدّها ووصلت إلى بيت والدها، وراح المتظاهرون يرشقون البيت بالحجارة. وشتمتها الصحف والكتب وكفّرها الشيوخ، واتهمت بالمروق والإلحاد، فصمتت عن الكتابة حتى وفاتها في سنة 1976.
في السجال العقلي تخلص نظيرة إلى أن المرأة ليست أقل من الرجل عقلاً وديناً، وأن سفورها حفظ لها وليس العكس، وأن الله لو أرادها أن تنزوي في البيت وتغطي وجهها ولا تختلط بالناس لقال هذا بشكل واضح في القرآن. فالشرف والعفة في النفس والقلب وليست في قطعة قماشية. أما الأدلة الدينية في حرب نظيرة ضد الحجاب، لإثبات أن الإسلام لم يشرّع الحجاب، فتقوم بإعادة تفسير الآيات القرآنية التي أقرت الحجاب. وهي تختصر في أربع: آيتان مختصتان بنساء النبي وآيتان للمسلمات عامة.
الآيتان المختصتان بنساء النبي هما الآيتان: 32 من سورة الأحزاب التي تأمر نساء النبي بأن: (قرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)، والآية الثانية هي الآية 53 من سورة الأحزاب التي تأمر المسلمين بألا يدخلوا بيوت النبي إلا بعد أن يؤذن لهم (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن. وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً) وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية خاصة بآداب زيارة المسلمين لبيت النبي وطريقة مخاطبتهم لزوجاته. وإن كان المفسرون قد فسروا كلمة: قرن بمعنى إلزمن بيوتكن، فهي حسب رأي نظيرة والفقهاء الذين استشهدت بهم تأتي بمعنى: امشين بدون ضجة، وهي على الرغم من ذلك خاصة بنساء النبي وليس بنساء المسلمين و(لستن كأحد من النساء) الأحزاب/32.
أما الآيتان اللتان تشملان المسلمات عامة فهما: الآية 30 من سورة النور التي تطلب من المؤمنين أن يغضوا أبصارهم ويحفظوا فروجهم (وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين من زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن.. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين منه زينتهن)، فقد اختلف المفسرون، بل وتناقضوا، حول المقصود من (إلا ما ظهر منها) والمقصود بالجيوب. ومعنى الجيب اختلف عليه بأنه النحر، أي أعلى الصدر أو الصدر وليس الجبهة والوجه. ولو أراد الله أن يضربوا بخمرهن على وجوههن لصرح بذلك تصريحاً، لما قال في الآية ذاتها (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)، فكيف سيغضّ المؤمنون أبصارهم إن لم يكن الوجه أمامهم.
والآية الثانية التي تخصّ المسلمات هي الآية 59 من سورة الأحزاب (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً). فإنها تختص باختيار زي تلبسه الحرات ليتم تمييزهن عن الإماء فلا يتعرضن لمضايقات الرجال إن خرجن في الليل أو لقضاء حاجة. وبالتالي لم يكن ستر هذا العضو أو ذاك بل اختيار زي للحرائر. والله لم يحصر في آياته الأعضاء التي تظهر في المرأة تاركاً تحديد ذلك للزمان والعقل السليم والضرورة.
لا يمكننا إلا الاعتراف بأن “نظيرة زين الدين” في كتابها استماتت بكل ما ملكت من شجاعة وحجة في مقارعة كبار الشيوخ والمؤسسات الاجتماعية والدينية والثقافية المهيمنة على المجتمع والعقول، محاولة أن تقنع القارئ في كل موضع بما اوردته في مقدمتها: “نستفظع اليوم ما صنع الأولون بنسائهم وكانوا يحسبونه بمقتضى العادة الظالمة عدلاً، وسيستفظع أحفادنا ما يصنع رجال اليوم بأمهاتهم وبناتهم وزوجاتهم وأخواتهم”.