عبدالرحيم العوجي. فنان وناشط مدني لبناني
مرةً أخرى لا يحالفني الحظ، مرةً أخرى أنجو، إلا أنه في هذه المرّة اخترق الانفجار كل شيء؛ منزلي، مدينتي وأحلامي. كلَّ شيءٍ إلا لحمي.
لحظة، لا أدري متى بدأت تلك الأشواك بالنمو على لحمي، متى أصبحت قنفذاً.
توقفوا.. لا تسحبوا تلك الشظايا الزجاجية من جسدي، فقد تحميني من قاتلي.
توقفوا.. لا أريد الآن سوى عناقَاً، لكن من سيعانق رجلاً ينمو الزجاجُ على جسده.
لقد فشلت. كل ما تمنيته يوماً هو أن أقع في الحب مرات أكثر من الانفجارات التي تقع في بيروت. لكنني فشلت..
“فإن الحب في بيروت، مثل الله”*.. لم يعد موجوداً
***
لقد كنتُ هنا، يوم نُـفِخ في الصور، وفزع من في السموات والأرض، لكنني لم أرَ المرءَ يفرّ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. بل العكس.. رأيت ممرضةً تنقذ ثلاثة أطفالٍ حديثي الولادة، تمشي بهم من مستشفاها المدمر إلى آخر أقل تدميراً. ألم يرَ اللهُ تلك الممرضة في الغيب؟ هل كذب الله علينا؟ حاشاه.
المرءُ في بيروت اليوم يفر من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. يحلم الجميع اليوم بالفرار والهروب. لأننا لو بقينا فعلينا أن نبتسم بوجه المجرمين كل يوم. أخطأنا عندما ظننا أنهم لن يقتلونا، لمجرد أننا أصدقاء.
لكنني لا أستطيع هزم الأحزاب وحدي. سأرحل.. لأن البقاء هنا هو اشتراكٌ بالجريمة.
***
“ولكن هل ستبدأ من الصفر؟” تقول صديقة.
يا صديقتي.. العرب هم من اخترع الصفر، حلقة مفرغة كبيروت.
في بيروت نبدأ من الصفر كل يوم، كأنها مدينةٌ جديدة، كل ما بنيناه قد انهدم وكل ما سنبنيه سينهدم.
حتى الصفر.. صادرته المليشيات مني
لا أعلم بماذا سأبدأ، لذا سأبدأ بالرحيل
***
سأرحل وأنا على مشارف الأربعين!
تقول أمي إنه عليّ أن أتزوج، كي لا أموت وحيداً
يا أمي، الكل يموت وحيداً
الزوج الذي يموت وتبقى زوجته حية، والأب الذي يموت ويبقى أطفاله أحياء، الجد الذي يموت ويبقى أحفاده.. كلهم ماتوا وحيدين.
وحدهم من ماتوا بالانفجار.. لم يموتوا وحيدين، بل كان معهم أطفالٌ ومراهقون، أمهاتٌ وآباء.
لذا علي أن أرحل يا أمي عن بيروت لأني أريد أن أموت وحيداً
* فإن الحب في بيروت، مثل الله موجودٌ في كل مكان. نزار قباني
اقرأ/ي أيضاً:
ماذا تبقّى لهم؟ لبنانيون يسعون للهجرة بعد كارثة المرفأ وآخرون باقون..
لن نرجع يوماً.. فقد أحرقوها! في تداعيات انفجار المرفأ
يوميات مهاجرة 20: لبنان الذي لم يعد أخضر.. ذكرياتٌ وأغاني
الانفجار الذي بدأ منذ عقود.. نظرة إلى لبنان ما بعد الحرب وما أوصله إلى حريقه الأخير