نيرمينة الرفاعي | كاتبة وروائية أردنية من أسرة أبواب.
عند الحديث عن قصص مصطفى تاج الدين الموسى، أعتقد أنَّه يجب أخذ نفس عميق قبل الانغماس في كتاباته وحرفه الذي يجرّك من يدك ليلقي بك مباشرة وسط المجزرة، فقصصه دون شك، حالة خاصة من الحزن الممتزج بعنصر السخرية والمفاجأة والنهاية غير المتوقعة التي قد يعتصرها في جملة واحد لا أكثر.
“مزهرية من مجزرة”، الكتاب الذي صدر عن بيت المواطن للنشر والتوزيع بدعم من جمعية “مبادرة من أجل سورية جديدة-باريس” عام 2014 وحمل الرقم سبعة، طاف فيه مصطفى على مشاهد الحرب ملتقطًا في كلّ مرّة التفصيل الأكثر دقة، محوّلًا إيّاه إلى مشهد لا تستطيع مخيلة القارئ أن تتجاوزه بسهولة.
بضع مشاهدة قصيرة لا تتجاوز عدّة سطور، كنت أنتهي منها وأضطر إلى التقاط أنفاسي لساعة بعدها. قرأت الكتاب على مدار أيام، وكلما يسألني أحدهم عمّا أفعله كنت أجيب: (صافنة)!
نعم! من الطبيعي أن أسرح حين يشبّه العسكري الواقف في منتصف الشارع “بخطأ لغوي فادح في نص هزيل”، أو حين “تصرخ القذيفة ذات الأسنان المتسوسة” بفخر وهي تقول إنَّها قتلت تسعة أشخاص، أو حين تنحني فناجين القهوة لتلتقط الجثة “وتحتسيها بهدوء قبل أن تبرد”! لقطات مصطفى تاج الدين الموسى حيّة، ذكية، كثيفة، دقيقة، تصيب الهدف دون مواربة، والأهم من هذا كلّه أنّك بعد أن تنهي الكتاب فلن يكون بإمكانك أبدًا إلّا أن تتخيل العسكري وكأنَّه “خطأ لغوي فادح”، ولن تستطيع أن تسمع كلمة قذيفة دون أن ترى أسنانها المتسوسة! لهذا الحد يتشرب القارئ المشاهد وهو يقرأ ويشعر بطعنات المجزرة في خاصرته مع كل كلمة.
العناوين التي اختارها مصطفى قادرة على إثارة فضولك قبل أن تبدأ بالنص، “سيرة حاوية قمامة”، “مصرع تمثال”، “غبار على الخيال”، “ابتسامات شاحبة.. أثناء الضباب”، وغيرها من البدايات التي تضع مفاتيحها في يد القارئ ليدخل القصة من بابها إلى محرابها ثم يأخذ فرصة للبكاء قبل أن يستأنف..
يعود بك الكاتب إلى ذاكرة الطفولة، ويستخدم الحكايات التي دأبت على سماعها بطريقة ملتفة تجعلك تمدّ يدك حول عنقك بحثًا عن أذنك وكأنك جحا الذي سألوه: “وين دانك يا جحا”؟
فالملكة التي وقفت أمام المرآة لتسألها:”هل هنالك من هو أجمل مني يا مرآتي”؟ ماتت، وقفز من مرآتها المتظاهرون وهم يرقصون، وقبعة الاختفاء صار طموحها أن يعبر صاحبها الحاجز العسكري، وبابا نويل يدس الأطفال تحت الوسائد كهدايا للامهات اللواتي فقدن اطفالهنّ، وسندريلا تلصق المنشورات المعارضة في منتصف الليل ثم تهرب من الجنود، وطبيب الذئب يفحص أسنانه مستغربًا وهو يقول أنَّ “نصف ليلى يوميًا لا يمكن أن تسبب كلَّ هذا التسوس”!
وتستمر يد القارئ في الدوران حول عنقه بحثًا عن أذنه، علّه يصدق كلَّ ما يحدث في زمن المجازر من موت وخراب، يتحسس يديه وقدميه ويتأكد من وجودهما في مكانهما، يراقب الوجوه الشاحبة والمدن التي لا يملّ نيرون من حرقها مرارًا وتكرارًا..
بين مساحات فانتازية وواقعية يبني مصطفى تاج الدين الموسى جسرًا متينًا ينقل أخبار الدم في بلاده وتفاصيل القلق الذي يعيشه السوري بين الوطن والمنفى والشوارع الغريبة التي “لا تستطيع معدته أن تهضمها”..
يسيطر الكاتب على دفة الحوارات ويديرها بمهارة، يتنقل بسلاسة بين الحوار الداخلي والخارجي بل وقد تسمع أصوات الشخصيات وأنت تقرأ، فليس بسهولة تستطيع أن تتجاوز عن صوت الطفلة الذي يقول في أحد المقاطع: “سنلميهم في البحل”، قاصدة قول: “سنرميهم في البحر”.. ولا يكتفي بذلك بل يبث الحياة في كلّ ما في حوله، فنرى فناجين القهوة والقذائف والدبابات والزنازين تتناقش وتتزاور وتدور في ما بينها نقاشات وأحداث مترابطة تغوص بك في عمق المشهد فترى الأمور من زاوية مختلفة كلَّ مرّة..
قد تسرح كثيرًا وأنت تقرأ، ولكنّك ربما لن تستطيع البكاء، لأنّك ستكتشف، كما اكتشف مصطفى في الصفحة 56 أنَّه لا يملك دموعًا، وأنَّ “اليوم يصادف، لسوء حظّه، العطلة الأسبوعية لبائع الدموع”!