حاوره طارق عزيزة
“الكتابة هي الحَجر الوحيد الذي أملكه وأريد أن أرمي به نافذة العالم، بعد أن أَغلقَ أبوابَه في وجوهنا.. النافذة عالية وما زال حجري لا يصيب سواي”. كنتُ أراقبُ الكاتب السوري عبد الله القصير وهو يخطّ هذه العبارة كإهداءٍ على إحدى نسخ روايته “كوابيس مستعملة”، وأتساءل: هل يمكن للرواية أن تكون حجراً؟ وعندما قرأت كوابيسه المستعملة وجدت داخل ذلك الحجر كيف قام بأنسنة الأشياء على طريقته، لتحكي قصص مَن أُريدَ لقصصهم أن تموت مثلهم.
عمل عبد الله القصير صحفياً في العديد من الجرائد والمواقع الالكترونية، وأشرف على مشروع لتوثيق الموسيقا السورية. عام 2015 نشر كتابه الأول، مجموعة قصصية بعنوان “عارية في العباسيين”، وفي نهاية 2018 صدرت روايته “كوابيس مستعملة” عن دار فضاءات للنشر.
على هامش أمسية قصصية له في مدينة لايبزيغ، كان لـ”أبواب” هذا الحوار معه:
- العديد من النقّاد يأخذون على معظم الأعمال الأدبية السورية التي تناولت ما جرى في سنوات الثورة ثم الحرب في سوريا، احتواءَها قدراً غير قليل من اللغة الصحفية أو التقريرية تحت ضغط الحدث اليومي ربّما. هل تعتقد أنّك استطعت تجنّب ذلك، سيما وأنّك لا تكتب في الأدب فقط وإنما تمارس الكتابة الصحفية منذ سنوات؟
لا أستطيع الحكم على الأعمال الأدبية السورية التي تناولت المرحلة الراهنة، لأنني لم أقرأ إلا القليل منها، ولا أستطيع أن أدعي نجاحي في تجنب ذلك، هذا إن اتفقنا أنه مأخذ عليها. لكن عموماً أخشى أن يشار إلى هذه الرواية أو تلك بأنها مكتوبة بلغة تقريرية أو صحفية لأنها لا تتكئ بوضوح على الأساليب البيانية، من استعارات لفظية وتشابيه ومجازات وغيرها من أساليب تشرّبتها جذورنا الثقافية من تربة الشِعر.
الأساليب اللغوية البيانية مهمة بحسب توظيفها في النص، لكنها ليست قادرة لوحدها على صناعة الصورة السردية في العمل الروائي، وأركز على مفهوم “الصورة السردية” لأن تحققها يحتاج العديد من مستويات التشكيل اللغوي، مثل سياق الأحداث، التكوين النفسي للشخصيات، البعد الدلالي للحدث أو الشخصية، التحكم بإيقاع السرد، متى تلجأ للحوار ومتى تستخدم الوصف، اختيار شخصية الراوي، البناء الجمالي.. والعديد من العمليات بما فيها البيان اللغوي والبديعي، وإذا اعتبرناها جميعاً شروطاً ضرورية لتشكيل الصورة السردية، فلا بد أن يتوّجها شرطٌ مهم هو الفرادة، رغم قناعتي بعدم وجود فرادة خالصة مئة بالمئة، إلا أنني أرى هامشها مازال متاحاً، ويتأتى بالدرجة الأولى من قوة التخييل، فليس مطلوباً من الروائي أو القاص تقديم العالم كما هو بحذافيره للقارئ، بل عليه إعادة تشكيله بالطريقة التي يراها مناسبة للأفكار التي يتطرّق لها.
- تقول في إحدى المقابلات أنّ هناك أفكاراً تحمل طاقة تفرض على الكاتب ألا يكتفي بكتابتها في قصّة قصيرة لأنها تحتمل أكثر من ذلك بكثير. أيّ الأفكار التي تناولتها في “كوابيس مستعملة” دفعتك لكتابة الرواية، ولماذا؟
من خلال الخبرات المتواضعة التي كونتها، يمكنني القول قرأت بعض الروايات التي حُمِّلَت أعباء لغوية أكثر من اللازم فقط لكي يُدوّنَ على غلافها كلمة “رواية”، في حين كان يمكن كتابتها كقصة قصيرة، ولربما ستكون أكثر جاذبية وتماسكاً، والعكس صحيح. تحضرني مقولة للناقد الأيرلندي فرانك أوكونور وأوافق عليها بشدة: “الفكرة الشائعة عن القصة القصيرة من أنها فن صغير خاطئة بالضرورة”.
ورغم قناعتي أنه لاتوجد قاعدة كاملة حول هذا الموضوع دون استثناءات توحي بما يناقض أي استنتاج تصل إليه، فإن الطاقة التي أدّعي أنها دفعتني لكتابة “كوابيس مستعملة” في قالب رواية وليس قالب قصة قصيرة، هي حالة الانتقال من الخاص إلى العام، من الأزمة التي واجهتها الشخصية الرئيسة إلى حالات كثيرة يصعب حصرها، إضافة إلى تحديات أخرى مثل تنوع أماكن الحدث، بين سوريا وألمانيا مروراً بتركيا، دون أن يندرج ذلك ضمن مايسمى أدب الرحلات، ولعلّ تسمية “أدب التهجير” تكون أكثر دقّة. لا أعني أن ذلك غير ممكن مطلقاً في القصة القصيرة، لكن من المنطقي التفكير بالأماكن الأكثر اتساعاً عندما يزورك عدد أكبر من الناس، وهو مايحدث في الرواية أيضاً.
- بدأتَ مشوارك مع القصة القصيرة، وأول كتاب نشرته مجموعتك القصصية (عارية في العباسيين). الآن بعد صدور روايتك الأولى والأصداء الإيجابية التي تتردد بشأنها، هل سيكون كتابك القادم رواية أيضاً أم ستعود للقصة القصيرة؟
- أعتقد أن كتابي “عارية في العباسيين” ظُلم كثيراً من ناحية الترويج والتسويق، وأستطيع القول إن أصحاب دار النشر الذي صدر عنه الكتاب لم يتحلّوا بأدنى مسؤولية مهنية تجاهه وربما العديد من الكتب التي أصدروها. عندما تواصلتُ معهم للحصول على بعض النسخ، أبلغوني أن النسخ المتبقية صودرت من قبل أجهزة الرقابة في إحدى الدول العربية قبل عام وأكثر، دون أن يكلف أحد منهم نفسه ويبلغني بالأمر حتى، ودون أن يكلفوا أنفسهم متابعة القضية، ليس من أجل استعادة حقي في إطلاق سراحه وتوزيعه، بل على الأقل لمعرفة سبب المصادرة، ولم نعرفه بالضبط، لكنني أرجح أنه كلمة “عارية” في العنوان.
عموماً، لا أعتبر كتابة القصة القصيرة مرحلة مؤقتة يتم بعدها الانتقال إلى الرواية، لذلك أظن أنني مستمر في التعاطي مع النوع الأدبي الذي أكتبه بناء على الفكرة التي أعمل عليها سواء كان قصة قصيرة أو رواية. حالياً أعمل على مجموعة قصصية جديدة، كما أفكر بإعادة نشر “عارية في العباسيين”، وطبعاً عن دار نشر أخرى.
- في الصفحات الأولى من “كوابيس مستعملة”، يلاحظ بطل الرواية عند انتقاله إلى بيته الجديد، أنّ “كل الأشياء الموجودة فيه مسبقاً تفرض تساؤلاتها”: “من هذا الغريب؟ ما الذي جاء به إلى هنا؟” وكأنّك تهيّئ القارئ لما ينتظره على امتداد الرواية، من ذاكرة أماكن وأشياء سيكون لها دور في سرد حكايات أصحابها ومصائرهم، غير أنّك ستترك قارئك نهباً للغموض والحيرة في الصفحات الأخيرة. هل كان الأمر متعمّداً؟
- تماماً، كان لزاماً عليّ التمهيد للقارئ بهذه المفاتيح دون أن أفضح كل مايتعلق بالشخصية الرئيسة، أملاً مني أنه سيعود بذاكرته إلى بداية الأحداث بعد الانتهاء من القراءة، وسيدرك أنني لم أسلمه مفتاحاً إلا ويصلح لفتح باب جديد يجعله يكتشف بقية الوقائع، ويطّلع أكثر على تفاصيل التركيبة النفسية التي بُنيت عليها شخصية “البطل- الضحية”. أما في نهاية العمل فأنا لم أترك القارئ نهباً للغموض والحيرة، بقدر ما حاولت أن أفسح له فرصة المشاركة في كتابة النهاية.
- قدّمت قراءات مرفقة بالترجمة أمام جمهور ألماني في مدن عدّة مثل لايبزيغ وهاله، كيف وجدت تفاعلهم مع نصوصك، وما الرسائل التي أردت إيصالها للمتلقّي الألماني؟
- بداية أشير إلى إقبال الجمهور الألماني الذي وجدته مشجعاً، وهذا عامل مهم يعكس وجهاً من وجوه التفاعل، كما يمكنني الحديث عن وجه آخر هو الإصغاء وقراءة النصوص بالألمانية. والنصوص ليست قصائد شعرية أو نثرية بل قصصاً قصيرة، وهذا يفرض جملة تحديات، ليس أولها إغلاق المنافذ في وجه الملل كي لا يصل إلى المتلقي، وليس آخرها التحكم بمخيلة ذلك المتلقي الذي ينتمي لثقافة مختلفة لاتجعله مهيأً لفهم كل الأفكار والمواقف والمفاهيم التي تتطرق إليها في كتاباتك. بشكل عام تبدو ردود الأفعال إيجابية. هناك تساؤلات توجه إلينا تلامس العمق، وبالمقابل ما زلنا نواجه أسئلة سطحية وبديهية من مختلف الجنسيات بما فيهم بعض أبناء جلدتنا، كأن يقول أحدهم: “ولكن أيهما أفضل سوريا قبل الثورة أم سوريا المدمّرة الآن؟” فتقول له: أيهما أفضل برأيك، بيتك كما هو عليه الآن أم بيتك وهو مدمّر؟ بالتأكيد البلاد المدمّرة ليست أفضل، لكن هذه ليست كل المسألة، لا يكفي أن تتعاطى مع الموضوع بهذه السطحية.
- نشاطك الثقافي لايقتصر على الكتابة، ويشمل تنظيم أنشطة ثقافية متنوعة (مسرحية، موسيقية، شعرية..) من خلال “البيت الثقافي العربي في هاله زاله”، هلاّ حدّثتنا عنه؟
- جمعية البيت الثقافي العربي في مدينة Halle انتقلت من حيّز الفكرة إلى الواقع عن طريق ثلاثة أشخاص، الصديق نبيل العلي والشاعر فايز العباس وأنا، ثم ساهم في دعمها أصدقاء آخرون، ألمان وسوريون. ما دفعنا للتفكير بتأسيس هذه الجمعية أن الجانب الثقافي العربي في المدينة التي نعيش فيها يكاد يكون معدوماً، خاصة الفعاليات الأدبية، فالموسيقيون يجدون لأنفسهم عادةً موطئ قدم بسرعة أكبر نسبياً.
العمل الثقافي في بلد معروف بقوة بيروقراطيته لايخلو من المصاعب، لكننا نحاول فتح نافذة تتيح لمن يرغب من الألمان الاطلاع على جزء من فنوننا وآدابنا.
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً: