حكم عبد الهادي
بعد سبعين عامًا على موت هتلر، وتسعين عاما على صدور كتابه “كفاحي”، صدر هذا الكتاب مجددًا، في مطلع شهر يناير 2016 في ألمانيا عن معهد تاريخ العصر (Institut für Zeitgeschichte)، مع إضافة 5000 تعليقٍ علميٍ عليه ليشمل حوالي ألفي صفحة. وكانت الطبعتان الأولتان (750 صفحة) نشرتا في عامي 1924 و 1926، وفيهما دوّن هتلر سيرته الذاتية، وبرنامج الحزب النازي واستراتيجيتة، وقد بلغت مبيعات النسخة الأصلية في عام 1944 أكثر من 12 مليون نسخة، مما جلب لهتلر ثروة ضخمة، ويُذكر أنه لم يدفع ماركا واحدا مما توجب عليه دفعه من ضرائب الدخل، التي بلغت قيمتها حوالي النصف مليون مارك.
لماذا يُعاد طبع “كفاحي”، ولو في إطارٍ آخر، بعد هذه الحقبة الطويلة من صدوره، وبعد أن كان بيعه وتوزيعه حتى مطلع هذا العام محظورا، بناءً على قرار الحلفاء بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية؟ الحلفاء كانوا قد منحوا حقوق طباعة ونشر “كفاحي” لحكومة ولاية بافاريا فقط، والتي انتهت صلاحيتها الآن بعد مرور سبعة عقود.
هتلر وكتابه يشكلان أسطورةً ليس للألمان فحسب، وإنما لأكثر من مجتمع، فقد تُرجم “كفاحي” إلى 18 لغة من بينها اللغة العربية. وللأسف ما زال بعض العرب يعبرون عن إعجابهم بالكتاب وكاتبه، رغم الدمار الذي جلباه لألمانيا والعالم على أثر الحرب العالمية الثانية التي فجرها هتلر في عام 1939. في اعتقادي أنّ كتاب المعهد يتصدى لما تبقى من ايديولوجية “كفاحي” التي استندت إلى التطرف القومي العدواني التوسعي وإلى نظرياتٍ عنصرية ومؤامراتية. وفي هذه الأيام نرى نشاطات واتجاهات ليست بعيدة عن عقلية هتلر، تجسدها على سبيل المثال نشاطات الحزب القومي الألماني ( (NPDوحركة بيغيدا المعادية للاجئين والأجانب بصورة عامة. وفي هذا السياق نشير إلى أن القانون الألماني ما زال يمنع إصدار النسخة الأصلية من كفاحي، ولكن على الرغم من ذلك من الممكن الحصول عليها بأساليب غير شرعية، وعن طريق الإنترنت، وبالإضافة إلى ذلك ما زالت دور نشر بريطانية وأمريكية توزعه باللغة الإنجليزية.
ليس مهما أن هتلر جمل سيرته الذاتية –كما كشفت هوامش كتاب المعهد المذكور- ليصبح بطلا في الجزء الأول الذي صدر في عام 1924، فهذا ما يفعله الكثيرون، وإنما في نظرته التي تعج بالكراهية المطلقة ليس لليهود فحسب وإنما أيضا لجميع غير الآريين بما في ذلك العرب. لم يكن هتلر الشخصية الوحيدة التي تميزت بذلك، فقد كانت في القرن العشرين عدوى العنصرية والتطرف القومي لحقت بأعداد غفيرة من الأوروبيين بمختلف أطيافهم، ولكن هتلر كان أكثرهم تطرفا وحسما، واستطاع على أرض الواقع أن يطبق الكثير من أفكاره الراديكالية: كالتوسع على حساب الشعوب الأخرى، نظرية المؤامرة اليهودية العالمية، والإدعاء أن اليهود يطمحون إلى تحطيم الاقتصاد الألماني لصالح نظام البورصة العالمي الرأسمالي, ولم يكتف هذا الرجل -الذي لم يكن مجنونا، كما ادعى البعض– بالقضاء على ملايين اليهود في أوروبا، فقد لاحق وفتك بالشيوعيين والإشتراكيين والبولندين والروس والغجر والمثليين والمعوقين. كان هتلر يسعى إلى كسب الطبقة العاملة وأغلبية الشعب الألماني، وهذا ما جعله يسمي حزبه NSDAP أي الحزب القومي الإشتراكي العمالي الألماني، وكانت محاربة أفكار كارل ماركس، خاصة فكرة الصراع الطبقي، التي سممت -حسب رأيه- نظريات الحزب الإشتراكي الديمقراطي، بالإضافة إلى عدائه الجذري للديمقراطية، من أهم مقومات استراتيجيته التي تستند إلى الصراع العنصري أي على انتصار العنصر الآري. وفي ظل الكساد العالمي استطاع هذا الخطيب الناري أن يصل عبر الإنتخابات الحرة إلى منصب المستشار في عام 1933. وكان أول ما فعله بعد فوزه بسدة الحكم إلغاء الإنتخابات ليصبح دكتاتورا عاتيا.كتاب معهد تاريخ العصر يشتمل على آلاف الوثائق والهوامش، التي أعدها خلال السنوات الثلاث الأخيرة العديد من المؤرخين، وعلى رأسهم الدكتور كريستيان هارتمان، وما من شكٍ أن هذا الكتاب مساهمة هامة ليس للمؤرخين فقط، وإنما أيضا لكل المواطنين بهدف الاستفادة من التجربة الهتلرية، وتجنبِ الكوارث التي يسببها الديماغوجيون الذين يدعون الإصلاح ويجلبون الدمار لشعوبهم وللعالم أجمع.