شريف الرفاعي*
فيما كنت أتابع قبل أيام الاحتفالات الفرنسية بذكرى الهدنة والذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، تذكرت رواية اسمها: صبر العصافير اللامتناهي وهي تخرج عن المألوف في صياغتها وموضوعها، يروي كاتبها الأسترالي دافيد معلوف (وهو من أب لبناني وأم بريطانية) قصة شاب استرالي مولع بالطيور، يراقب تحركاتها ويسجل أنواعها وطقوسها ومواعيد هجراتها في مستنقعات وبراري أستراليا الشاسعة. ثم تندلع الحرب العالمية الأولى ويذهب متطوعون للمشاركة في القتال، ومنهم جيم، الذي يعلل ذلك بأنه “إذا لم يذهب فإنه لن يفهم أبداً، عندما سينتهي كل ذلك، ِلمَ تغيرت حياته وكل ما عرفه حتى الآن، وأن أحداً لن يكون بمقدوره أن يقوله له. وسيمضي حياته متسائلاً عما جرى له باحثاً في عيون الآخرين عن إجابة”.
يذهب جيم إلى الحرب إذاً، دون الانتماء إلى طرفٍ محدد ودون إيديولوجيا أو إيمان بجدواها، وسيكشف هناك أن: “الحروب ستستمر حتى الأزل. الحرب، أو شيء يشبهها يحمل اسماً آخر، سيستمر بالانتشار من هنا وحتى يطال الأرض كلها؛ الآلة الهائلة والمجرمة التي تشتغل في المقدمة تتطلب مزيداً من الرجال ومزيداً من الدماء كي تعمل، ولم يعد بالإمكان السيطرة عليها”.
لا تبحث الرواية عن مذنب وبريء، ولا تقول كلمة واحدة عن سبب اندلاع الحرب العالمية الأولى التي حصدت الملايين والتي تحتفل فرنسا اليوم بمرور قرنٍ كامل على نهايتها. فبعد مرور الزمن لا يبقى من الحروب سوى ذكرى مآسيها وضحاياها الذين لم يختاروا بالضرورة خوضها.
إذاً تذكرت كل هذا وأنا أتابع الاحتفالات الفرنسية، والحقيقة أنها كانت جميلة ومتقنة على كافة الأصعدة، الفنية منها والتعبيرية، حتى خطاب ماكرون كان جيداً ومؤثراً وهو يتحدث عن السلام وعن إمكانية تجنب الأسوأ في كل لحظة. وبينما كانت الموسيقى تعزف مقطوعة باخ ثم مقطوعة البوليرو لرافيل، كنت أتأمل وجوه الحاضرين في الصف الأول: بوتين، ترامب، نتانياهو، ثم تساءلت عن جدوى الكلام المنمق في حضرة هذا الجمع الغفير! فإذا كانت مقتضيات السياسة والبروتوكول تبرّر دعوة روسيا وأميركا باعتبارهما طرفان في الحرب، فإنها حتماً لا تقتضي دعوة نتانياهو الذي لم تكن دولته قد وُجٍّدت أصلاً حينها. وحده توازن القوى في أسوأ صوره يبرّر وجوده.
كانت الصورة تتناقض مع الخطاب والموسيقا والأشخاص على جمالهم، وعندما سألتني ابنتي ببراءة عمرها، من هو الجندي المجهول؟ تلكأت بالإجابة مخفياً تحشرج صوتي، وانتبهت أنني لم ألمحه بين الحضور رغم كل العسل وإتقان المشهد. اكتشفت أيضاً كم أن الحزن بات متغلغلاً في داخلي لدرجة العجز عن التفاؤل، وكنت أرى على إيقاع البوليرو كل حروبنا المستمرة وطابور الآلام المستمر على جغرافيتنا وناسها.
لم يعد جيم، عاشق الطيور، من الحرب التي لم يفهم عبثيتها حتى راح ضحيتها، هو والملايين من أمثاله، هو والخيول والكلاب والطيور التي دفعت أيضاً دون أن تدري ضريبة الحرب. ثم اكتشف في تلك اللحظة المتأرجحة بين الحياة والموت كم هي طيبة رائحة الأرض التي بدأ بحفرها، وهو يسمع صوت صديقه الذي قضى نحبه قبله يقول: “لم يعد هناك من مخرجٍ آخر، إلا أن نحفر عميقاً كي نخرج من الجانب الآخر”، أي من الجانب الآخر للأرض!
*كاتب ومعماري سوري مقيم في باريس
اقرأ/ي أيضاً: