بقلم: خضر الآغـا*
خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، بزغ عدد من الشاعرات يضاهي، بل يفوق ما ظهر منهن على امتداد تاريخ العرب، أو ما وصل إلينا منه.
خلال هذه الفترة كانت قصيدة النثر تتسع وتتمدد، وكان شعراؤها يقفون على الجهة المقابلة لشعراء الحداثة. هؤلاء الأخيرون كتبوا القصيدة الاستعلائية، وحشدوها بقضايا كبرى: كالتحرير، والبعث، والتقدم، والتخلف، والحضارة… إلخ. كتبوا عن الإنسان القوي، القادر، السوبرمان، وأسبغوا على الشاعر صفات الألوهة والنبوة، فيما كانت الحياة اليومية للناس وتطلعاتهم وحركتهم نحو الحياة غائبة عنهم.
فيما اهتم شعراء قصيدة النثر، غالباً، بالإنسان في حركته اليومية، بالأشياء والتفاصيل التي تعني البشر في حياتهم، ربما، أكثر مما تعنيه الميتافيزيقيا ومصائر البشرية والثقوب السوداء، لم ينظروا إلى الإنسان السوبر، بل إلى الإنسان العادي، نظروا إلى الهشاشة لا الصلابة والصلافة، نظروا إلى الأرض لا السماء، إلى وحل الشارع والأرصفة، نظروا إلى الانكسارات الشخصية والعامة، لا إلى وهم الانتصار على اللاشيء… وهكذا.
اتخذ ذلك كله شكل الأداء اللغوي البسيط، اتخذ شكلاً مضاداً لبلاغة الحداثة ودالاّتها ومدلولاتها السابعة، اتخذ شكلاً لغوياً هو أقرب إلى لغة الناس من لغة التقعّر والتحدّب والخطابة، وكان الدليل إلى ذلك هو محمد الماغوط. العرض هنا، أيضاً، تاريخي، فقد وصل التبسيط في الأداء اللغوي إلى مستوى من الثرثرة والكلام والحكي الذي لا يؤسس لشعرية من أي نوع..
في هذا السياق ظهرت الشاعرة الأنثى بتعداد كبير وبروز لافت، إذ وجدت أن القصيدة لانت، واستدارت زواياها، وراحت تقول ما يشبه قول الأنثى أيضاً، لا من حيث التشكي والثرثرة وبث الهموم والدموع كما هي الصورة النمطية عن كتابة النساء، بل من حيث التخفّف من/ أو انهيار العجرفة اللفظية وصلافة القول وقسوته، والكتابة المضادة للطغيان والتسلّط والإرغام. وهذا يقع في الجوهر من فكرة جعل العالم أنثى، أو فكرة تأنيث القصيدة والعالم.
وإذا بدأت مرحلة التسعينيات الشعرية التي أشرت إليها بزخم أنثوي، فإن هذا لم يكن على نحو مستقل، أو منفصل، أو متمايز عن القصيدة التي يكتبها الشاعر الذكر، لم يكن ضمن حركة أو توجه نسويين، لم يكن لأهداف خاصة تتعلق بالمرأة وحقوقها ونضالاتها، لم يكن شعراً دعوياً إذاً. بل ظهر ضمن التوجه الشعري لتلك المرحلة، ضمن الأداء اللغوي لها، ضمن ذات المقولات وذات الطروحات.
بعبارة أخرى: لم يكن شعر الأنثى في تلك المرحلة يتسم بسمات خاصة، إن من حيث اللغة أو من حيث المعنى، تجعل القارئ يلاحظ، ببساطة، أنها كتابة أنثى، ربما باستثناء كاف المخاطبة! وهذا الأمر ظهر على نحو أكثر جلاء خلال الثورة السورية من خلال بعض الكتابات الشعرية المتناثرة هنا وهناك والتي تنطوي على قيمة فنية، إذ إن التطلعات المشتركة للسوريات والسوريين، وآلامهم المشتركة، والواقع المتغطرس الذي يهرس الجميع بالتساوي، جعل التعبير والأداء الشعريين مشتركاً في الكثير من الخصائص بين شعراء هذا التوجه جميعاً: نساء ورجالاً.
قد يبدو الأمر ليس جيداً وفق وجهة نظر بعض تيارات النسوية التي تبحث عن اختلافات بين كتابة الأنثى وكتابة الرجل ناجمة عن اختلاف الظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تعرّض لها كلا الجنسين. لكن، في العمق، قد يكون لهذا آثار إيجابية تتعلق بما يسمى “الجندر”. إذ ضاعت المسافة التي خلقتها تلك الظروف بين الأنثى والذكر، فلم يعد هذا الأخير متحكماً بمصائر الشعرية، ولم تعد هي واقعة ضمن أسر النمط الكتابي التي وضعتها الثقافة البطريركية فيه، فالمرأة والرجل كلاهما يكتبان ضمن الشروط ذاتها والمعايير ذاتها، وما يميز بينهما هو ما يميز بين شاعر وآخر وشاعرة وأخرى، إنه الأداء والمهارة وغير ذلك من تقويمات القراء والنقاد والمشتغلين في حقل الثقافة النقدية.
إن خصائص الكتابة الشعرية الجديدة التي هي، كما ذكرت، ضد الطغيان، وتنتمي للأفق الدلالي لحركة الناس وأشيائهم اليومية، والمهملات، والمتروكات.. هي خصائص ذات صلة وثيقة بفكرة تأنيث العالم، وهذه ليس لها علاقة بجنس الشاعر: ذكراً كان أم أنثى، بل لها علاقة وطيدة بهذه الخصائص إن كان الشاعر أنثى أو ذكراً. ثمة الكثير من كتابات النساء توطد وتعمق نسق الهمينة وتعمل ضمنه، وهذا عمل الذكورة ذاته حتى لو قامت به أنثى، والعكس يصح تماما،ً إذ ثمة الكثير من الشعراء الذكور يواجهون بلا هوادة ذلك النسق، فهم على هذا يعملون بلا هوادة على تأنيث العالم.
*شاعر وناقد سوري مقيم في ألمانيا