أدب سجينات الرأي.. نساء سمر يزبك نموذجاً
مها حسن. روائية سورية مقيمة في فرنسا
اعتاد النقد العربي الاتكاء على المدارس النقدية الغربية، لتفسير منتجه العربي، ولكن ما هو الحل حين نكون أمام نتاج إبداعي، ناتج عن تجارب محلية بحتة. لهذا أجدني قلقة بصدد إطلاق تصنيفات جاهزة، على الإبداع السوري المُنجز في السنوات الأخيرة التالية للحراك الثوري العربي، الذي يُعتبر بحد ذاته، تجربة عربية فريدة، تمثلت اجتماعياً وسياسياً، بما اُتفق على دعوته بالربيع العربي. إذن، لابد للنقد العربي ابتكار أدواته التحليلية في مواجهة وتفكيك أدب الربيع العربي، والتصدي خاصة للجزء الأكثر إشكالية: الأدب الواقعي أو التوثيقي ،البعيد عن التخييلي.
تحتاج المكتبة النقدية العربية بشكل ملحّ، مواظبة النتاج الإبداعي، الذي يتدفق بقوة، بينما لا يزال النقد قديماً ومتكلّساً، وغير جدير، إلى حد كبير، بالنتاج الطازج، الخارج للتو، من مختبر الشعوب الثائرة، بكل ما تحمل هذه التجارب من إرهاصات وانكسارات وخيبات وفشل ومعاناة، حاول أن يتصدّى لها الأدب والأدباء العرب المعاصرين.
وبتحديد أكثر، علينا الاهتمام بالمُنتج الإبداعي للمرأة في ظل الربيع العربي، وموجة ما بعد هذا الربيع، وأثره الأسود والمأساوي على النساء خاصة، ضحايا عنف المجتمع من جهة، والنظام السياسي المتسلط من جهة أخرى، وضحايا الثورات الفاشلة من جهة ثالثة..
مع أنه لا يمكن إنكار تجارب الشعوب الأخرى، في العنف الذي عانته النساء في ظل الحروب والأزمات الكبرى، والتصدي لأنظمة القمع الاستبداد، لكن التجربة السورية تبقى لها خصوصيتها وفرادتها، كون المجتمع السوري في بنيته السوسيولوجية ، مجتمع شرقي، عربي، ذو أغلبية مسلمة، له تقاليده الحساسة في التعامل مع النساء، والمرأة التي تعيش داخله، مجبرة غالباً على الصمت إزاء الانتهاكات التي تُجرى ضدها.
حتى لا يبدو البحث عن مرجعيات نقدية للأدب المعاصر الناتج عن الثورات الأخيرة الفاشلة، والتي لا يتسع المجال هنا لتفكيك عناصر هذه الثورات وأسباب فشلها، فسوف تعتمد هذه المادة الموجزة على سرديات نساء سوريات روين حكاياتهن الشخصية، وتحدثن بشجاعة عن تجاربهن الفردية في السجون السورية، وعن المنافي، واضطرارهن للهروب للنجاة بأجسادهن وأرواحهن، وهنا تكمن خصوصية المعاناة النسائية، المشرقية تحديداً، في اعتبار جسد المرأة، كسلاح حرب، يُستعمل لإهانتها وإهانة التقاليد الجمعية المشرقية التي تعتبر المرأة شرف العائلة والقبيلة.
تسع عشرة امرأة في الكتاب: هاربات من الحرب، فارّات من جحيم المعتقل، معتقلات سابقات، معتقلات إبّان الحرب أو الثورة، منفيات، مُلاحقات من مجتمعهن، مُطاردات من قِبل جماعات متطرفة، وغيرهن الكثيرات اللواتي لم يتسع الكتاب لهن جميعاً للروي، نسمع أصوات تسع عشرة امرأة سورية، في كتاب سمر يزبك الصادر عن دار المتوسط في العام المنصرم، والصادر باللغة الفرنسية هذا العام، من دار ستوك.
يبدو هذا النوع من الكتب، كما ورد من قبل، ذو حساسية خاصة، حين نسمع بوح نساء عربيات مسلمات، هن بالأصل ضحايا يُحرم عليهن الكلام، وفضح المجرم الحقيقي .
لاعتراضي على فكرة الأدب النسوي أو أدب المرأة، فإنني أميل إلى تصنيف الكتاب في باب أدب السجون، حيث شهادات تقشعر لها الأبدان، ونحن نقرأ تفاصيل الحياة في السجن، الذي خضعت له النساء السوريات، قبل الثورة، في عهد الأسد الأب، وأثناء الثورة في عهد الأسد الابن.
كما يُمكن تصنيف الكتاب ضمن أدب المنفى، حيث أغلب المشاركات في تقديم شهاداتهن في الكتاب، اضطررن إلى الرحيل ومغادرة البلاد، ويعشن قسوة المنافي، وعدم قبول حالة البقاء خارج الوطن.
من طرف آخر، يمكن أن ينضوي الكتاب تحت بند كتابة المرأة، ولكن بشكل مغاير عن السائد، حيث لا يُقصد هنا بأن المنتج مردود لصاحبته، الكاتبة الروائية سمر يزبك التي قامت بتجميع الشهادات، بل المقصود الشهادات ذاتها، التي دونتها نساء ليست الكتابة من اختصاصهن، لكن يزبك ، آثرت ترك الشهادات كما وصلتها، بعد أن أرسلت النسخ الأولى لصاحباتها لمراجعها والموافقة على نشرها، دون أن تتدخل لغوياً .
تقول يزبك في مقدمة الكتاب: “حاولت قدر الإمكان الوفاء لمنطق اللغة فيما قلنه وعدم حشو تجاربهن بآراء شخصية لي، أو إعطاء مفرداتهن مصطلحات نخبوية وأكاديمية أو أدبية، بعيداً عن اللغة التي عبّرن بها”.
يمكن إذن تصنيف الكتاب ضمن عدة خانات،تبعاً للتيمة الأصلية التي تتطرق لها كل شهادة، حيث تختلف حكايات النسوة التسع عشرة، حسب درجة اقتراب كل منهن من حد الخطر، ومن حجم انخراطها في العمل المعارض، سياسياً، أو إغاثياً، أو إعلامياً…
في حال تصنيف الكتاب كنوع من أدب السجون، أفضّل شخصياً استعمال توصيف مختلف يخصّ تجربة النساء: أدب سجن النساء، مع التذكير دائماً أن السجن هنا لأسباب سياسية، وأن النساء المعنيات بهذه المرويات، هن سجينات رأي. ليس القصد هنا جندرة الأدب، الأمر الذي رفضته شخصياً ككاتبة، ولكن من باب تسليط الضوء على تجربة سجن المرأة المختلفة عن تجربة الرجل، حيث بيولوجيا المرأة تُعتقل معها، وتتعرض أنوثتها وأمومتها للاعتقال وأحياناً للاغتصاب.
ففي شهادة ضحى عاشور مثلاً، الرواية الخامسة في الكتاب، تتحدث السيدة عن خصوصية سجن المرأة السياسي، فهي سجينة رأي في عهد الأسد الأب، تخفي أمر حملها عن السلطات، حتى لا تُعرض زوجها للخطر. حكاية حمل ضحى وإنجابها في السجن، رواية تستحق وحدها كتاباً كاملاً، أو فيلما سينمائياً، شديد التركيب والدراما.
ضحى تكتب باسمها الحقيقي، وهي اليوم متواجدة في باريس، وشخصياً التقيت بها، وتحدثنا عدة مرات، وهي امرأة رصينة وذكية ومثقفة وتتمتع بحس نقدي قوي، صوب كل ماحولها، أي بمعنى خاص يتعلق بالمقتلة السورية: امرأة قادرة على استيعاب المشهد دون الوقوع في فخ الكراهية والتعميم وأمراض الطائفية والتعصب التي أفرزتها الحرب السورية لدى أغلب شرائح المجتمع السوري.
عاشت ضحى باسم مستعار عام 1987 خوفاً من الاعتقال، حيث تم اعتقال أغلب عناصر الحزب الذي تنتمي إليه: حزب العمل الشيوعي. لكنها اُعتقلت في دمشق سنة 1993 وكانت في أثناء فترة التخفّي قد تزوجت من رفيق لها في الحزب بشكل سري كي لا تعرضه للاعتقال. حين قبض عليها كانت حاملاً في شهرها الثاني: (في إحدى المرات ، أُغمي علي في باحة السجن ، ونزفت، وتوقف جنيني عن الحركة، اعتقدت أنه مات، لكنه عاش! قال الطبيب الذي فحصني إن جنيني يتكور على نفسه بطريقة غريبة، وهو مذعور!) صفحة 97 من الكتاب.
الفصل بكامله يستحق القراءة مرات ومرات:عذاب المخاض، وصعوبة نقل السجينة الى المشفى بانتظار الموافقة الأمنية، وهي تنزف وتفقد الوعي وتكاد تموت. لكن ضحى تضع ديانا في الحياة، وتعود بها الى السجن. بعد بلوغ الطفلة السنة والشهرين، تطلب ضحى من زوجها ان يأخذها على أن يُحضرها لأمها كل أسبوعين، هكذا حتى عام 1999، تاريخ خروج ضحى من المعتقل. ثم ومع انطلاق الثورة، تنخرط ضحى مجدداً في الحراك السوري، وتتجدد معاناتها، ومخاوفها من الاعتقال.
أما مريم، صاحبة الحكاية الثانية، فقد تم اعتقالها في عام 2013، تقول: جاءت في صباح أحد الأيام دورية أمن إلى البيت، كان معي اثنان من الشباب، وضع رجال الأمن المسدس في رأسي، وهددوني بالقتل، ثم أغمضوا عيوننا، وأخذوا أجهزة الكمبيوتر، ودمروا محتويات البيت، ثم اعتقلونا. تحرشوا بي، دسّوا أيديهم في أنحاء جسدي كلها، ولعبوا به، وربطوا يديّ بقيد حديد، كنت هادئة، لا أتحرك، وصامتة تماماً، لا أشعر بأي شيء مثل حجر. صفحة 48 من الكتاب.
تتحدث مريم عن جلسات التعذيب بالكهرباء، وتقول: وبين جلسات التعذيب بالكهرباء، يأتون بقطع ثلج، ويفرغونها على جسدي… لم أكن أعرف طعم النوم، لأنهم يأتون في كل ساعة أو ساعتين، ويعاودون تفنّنهم في التعذيب. صفحة 50 من الكتاب.
أما زين، فقد تم اعتقالها في حلب، من قبل نساء على الحاجز، تقول زين أنها افترضت أن تعاطف النساء معها سيكون قوياً، لكنهن ضربنها بوحشية: (ثم انضم الرجال إليهن، وأطفؤوا سجائرهم في جسدي، وكانوا يقولون إنني إرهابية. الحاجز عبارة عن غرفة كبيرة. أدخلوني إليها، وقالوا أنهم سيغتصبونني واحداً واحداً). في الصفحة 76.
تتحدث زين عن الانتهاكات التي مارسها “الشبيحة” بجسدها، وتروي حادثة مرعبة جرت في فرع الأمن في حلب، حيث نُقلت، فقد أجبروها على مشاهدة عملية اغتصاب لأحد الشباب من “الجيش الحر”، وقال لها الجلاد : إذا لم تنظري، فسوف أغتصبك. كانت زين تحدق في وجه الشاب وهو يُغتصب.
تطول وتتعدد مرويات النساء اللواتي تعرضن للاعتقال والاغتصاب والإجهاض القسري، وتتعدد الجهات التي تعتقل النساء الناشطات، إذ لم يكن النظام فقط خصمهن، بل تكاثرت سكاكين القسوة والعنف، ليتصدى لإحداهن أحد عناصر جبهة النصرة، ويحصل سجال بينه وبين أحد عناصر الجيش الحر، وتكاد تنشب معركة بينهما، وكذلك تتعرض سعاد، إحدى ساردات الشهادات الحقيقية والمؤلمة، لاعتقال من قبل “داعش” في الرقة. تقول سعاد : (اعتقلني أحد حواجز ” داعش”، كان هذا فقط لأن ثوبي ظهر من تحت العباءة عندما نزلت من الحافلة. لم يكن ثوباً أسود، فأخذتني جماعة “الحسبة” ، وفيها سوريون، حققت معي لساعات، لتتأكد أن من معي هو أخي.) في الصفحة 115.
تروي سعاد كيف أجبرت على شراء عباءة من عند المحقق الشيخ، الذي اعتبر ثيابها مخالفة للقوانين، مع أنها كانت مغطاة بالأسود كما يريدون، وتم احتجازها حتى يقرر شيخ آخر من الهيئة الشرعية أمرها.
تصف سعاد غرفة الاحتجاز، وتسرد حالات نساء محتجزات، لأسباب متعددة، إحداهن، لأن ابنها في الجيش الحر، الذي يعتبرون عناصره كفّاراً، وأخرى تم اعتقالها لأنها تسافر وحدها، دون محرّم.. وحالات أخرى، وتنقل شهادات نساء التقت بهن في غرفة الاحتجاز، لتروي إحداهن كيف قامت “داعش” بقطع رؤوس شباب من ” الجيش الحر” : (رأيت رجلاً من “الدواعش” يمسك بسيف، ويقطع رأس قريب، والناس يشاهدون. كان أكثرهم من الأطفال، علقوا رأسه أمام الجميع، وصلبوا جسده.) من الصفحة 118.
تستحق سرديات الاعتقال الكثير من التوقف، لتفكيك تفاصيل معاناة النساء في السجون: عدم الاستحمام، عدم توفر الشروط الصحية في فترة الحيض، الإصابة بالقمل والأمراض، عدم توفر الأدوية، دماء الطمث على البطانيات….
لا يتسع المجال للحديث عن باقي التيمات المهمة الواردة في هذه الروايات التسع عشر، لهذا ربما علينا فقط التأمل وتخيّل حكايات أخرى، لنساء كثيرات، لم يجدن أمامهن من يسمعهن أو يقرأهن… ربما نساء قُتلن تحت التعذيب، أو بسبب الإجهاض القسري، أو الاغتصاب، أو عن نساء فقدن عقولهن، ولم يعد لديهن القدرة على الكلام، إذ يعشن، كما تقول الصيدلانية فاطمة، إحدى الشاهدات في الكتاب،التي تعرضت للتعذيب على طريقة الكرسي الألماني : لا يزال السجن في داخلي، لا أطيق الحياة في غرفتي، وأدور حول نفسي، وأظن أنني في السجن.
لا يزال الكتّاب والكاتبات العرب، حتى اليوم، يصنعون تجاربهم المختلفة، الخاصة، الطازجة، المأخوذة من أبواب البيوت العربية، والسجون، والمنافي، ويُتوقع أن تزخر السنوات القادمة، بالكثير من الشهادات والخبرات والروايات التي ستبدو فعلاً قد قطعت شوطاً متقدّماً في طرح أشكال إبداعية جديدة، بينما يقف النقد مرتبكاً في تصنيف هذه النتاجات، لهذا لا يوجد حل أمام المكتبة العربية ، والناقد العربي، سوى ابتكار وصفته الخاصة، المأخوذة من مخبر الشعوب العربية، والإبداع العربي، والوجع العربي.
اقرأ/ي أيضاً:
أن تكون إنساناً بما تعنيه الكلمة من دلالةٍ “أخلاقية” أو لا تكون.. مصطفى خليفة صاحب رواية “القوقعة”
أدب من سوريا – بداية في مجتمع جديد