باسل عبدو. مهندس برمجيات سوري مقيم في كندا
كعادته ولّى سراعاً صيف مونتريال القصير، لا شيء جديد في ذلك.. ولكن مع الأسف، لا شبع القلب من شمسه ليخزّن قليلاً من الدفء، ولا البدن أخد كفايته من فيتامين (د/D)، ولا الوقت أسعف أحداً ليخزّن كميةً وافرة منه. وفقدان نور الشمس يجعلنا نلجأ لبدائل كثيرة لنعوّض هذا التّوق الحاد لدفء الشمس من ناحية، ونخفف تعب ووَهَن البدن من ناحية أخرى.
تمشي في شوارع مونتريال ، فتسمع من حيث لا تدري أحداً يقول: “إي.. فتحت حساب بنك اليوم وبكرا رح طالع التأمين الصحي” أو شخصاً آخر يهتف بالإنكليزية: ” ok! Let’s meet to discuss the business plan more in details”. تعبر بكَ أمٌ تأخذ ابنها أو ابنتها إلى الروضة، وأناسٌ يركضون هنا وهناك بسبب تأخر الباص، فعادة باصات مونتريال ألا تأتي أبداً في موعدها، يتردد على سمعك لغات ولهجات عدّة وروائح أكل متنوعة، منها الشهي ومنها اللاذع.. وهذا الخليط والتنوع كله هو ما يعطي المدينة سحرها الجميل ويجعلها من المدن المحببة إلى قلبي، ولكن بعد اللاذقية مرتبةً بالتأكيد.
في هذا الوقت من السنة تكون شوارع مونتريال مكتظّة بالسناجب والراكونات، حيواناتٌ بريئة تركض وتسعى بين الناس أو في الجنائن لتأخذ الحبوب والمكسّرات واللّوزيّات فتكتنزها في قلب الأرض لوقت حاجتها إليها، لتشبع نهمها وتكفي قوت يومها في أشهر الشتاء الكندي البارد ولياليه الطوّال، فتارةً ترى السكان أو الناس “الذين اندمجوا” يلاعبون السناجب ويتشاركون معها قطعاً من خبز البيغل “bagel” الذي تشتهر به مونتريال لتجمعهم اللقمة الطيبة، وتارةً ترى غيرهم من “القادمين الجدد” أو المهاجرين خائفين منها، بينما آخرون يقومون بتصويرها مع ألوان الشجر الأحمر والبرتقالي والأصفر الذي يمتاز به الخريف الكندي السّاحر والآسر للقلب.
كل ما سبق هو مخزونُ ابتساماتٍ يتراكم على طول الأيام، سواءً كانت بسمات السكان بفرحتهم بمشاركة الحيوانات أكلهم مثل ما ذكرت، أو كانت بسمات ارتباك المهاجرين الجدد أو انبهارهم بجمال الخريف، ومستودع هذه الذكريات هو بالتأكيد القلب قبل الذاكرة.
ولتعبئة هذا النوع من المخزون طُرُق وأشكال عديدة بصور جميلة.. ومن يقوم بالحِيَل التي ذكرتها أعلاه يفعل ذلك بطرق عدّة يمليها عليه قلبه، وكلها لها نجاعة مُرضية وأثر ووقع جميلين في الفؤاد والروح.
في ساعة صفا من ليالي مونتريال الخريفية الباردة مع كأس شاي حلو وبحضور صوت محبب لقلبي، صوت “عارف حجّاوي” في الحلقة الخامسة من برنامجه “اللغة العالية”، وبصوته الجميل ونفسه السّمِحة، رُدّت لي صورٌ لسنين وأيام راحت..
عِدّة صور مرت سراعاً بقلبي ومخيّلتي بنفس الوقت، أغلب هذه الصور سُحِبت لذّتها ودفؤها من قلوب أغلبنا في الوقت الحاضر لأسباب عديدة ومنها التطور التكنولوجي المخيف، وصارت مجرّد ذكرى ترسم بسمةَ شوقٍ على الوجه لا أكثر، والحمدلله على نعمة الذاكرة اللي حفرتها هذه الصور في العقل والقلب. ذُكِّرت بلحظة جميلة، بعد صلاة العشاء في شتاء سوريا الحُب..
كانت شقيقة الفؤاد والقلب، بالتزامن طبعاً مع همهمات أذكار العشاء التي يتخللها دعاءٌ لنا كلنا منبعه قلبها العَطِر، تحضر كيس النايلون من جانب التلفزيون وتخرج منه “سنّارتين” لحياكة الصوف (نمرة ٤.٥ أو ٥) مع “كبكوبين” صوف لون رمادي غامق وخمري، تجلس بالقرب من “الصوبيا” تتناول بيديها السنارتين ثم تحملهما في موضع قريب من القلب وتبدأ الحياكة، وهذا سبب التنعم بالدفء بكل ما قامت بحياكته، ثم تبدأ بإصدار الأوامر سواءً للدراسة أو لشراء أغراضٍ للبيت وغيرها من دواعي تأفف الأولاد في ذلك الوقت.
بشكل عام يكون في تلك الأوامر نوعٌ من حرية الاختيار.. من قبيل “إما الدراسة أو إخراج القمامة” وفي هذه الحال أكيد نذهب جميعاً مع الخيار الأول ونبدأ بتصفح الكتب تصفّحاً متمهلاً، لا يكاد يدوم لأكثر من نصف ساعة، بينما في الخلفية صوت التلفزيون إما على فاصل غنائي يصدح على محطة التلفزيون الرسمية سواءً لصباح فخري أو أسمهان، أو على فيلم السهرة في حال كانت ليلة يوم الجمعة، أو كما في أغلب الأيام، على الأصوات الآتية من “القناة الثانية” التي يبدأ بثها في الساعة السادسة مساءً حيث كنا نبدأ بالتسمر أمام أفلام كرتون في البداية وبعدها نشرة الأخبار باللغة الإنكليزية الركيكة وصوت المقدم بتواتره الرتيب والممل جداً.
في لحظاتٍ كهذه، ومن أيام الصغر حتى النضج ودخول الجامعة، حافظتُ على عادةٍ واحدة صارت من لوازم سكينة القلب واعتدال المزاج و”الرواق”، كان “خيّكم أبو البواسل” يتوجه إلى المطبخ ليتناول رغيفاً من كيس الخبز، الكيس المفتوح بالطريقة التقليدية العريقة بالنسبة لي وربما للكثيرين منكم بمزقٍ في طرفه –وهو الأمر الذي سبق أن تلقيت نصيبي من التقريع عليه ربما بـ”بهدلة صباحية”- يفرد أبو البواسل رغيفه على “صوبيا المازوت”، سواءً الهلال أو الشمس أو الكهربا، ويدهن عليها طبقةً سميكة من اللبنة الحامضة غير المغشوشة مع رشة ملح وزيت وفليفلة ونعنع..
ويأكلها بنهمٍ وحبٍ شديدين جداً، ويتوسّد بالقرب من حبيبة القلب والفؤاد ويدنو رأسه من حجرها وهي تحيك الصوف، يشاهد التلفزيون ربما برنامج بنك المعلومات للدكتور عمر الخطيب الذي يتميز بكلماته التشجيعية مثل “يا سّلام عليك” في حال أحد المتسابقين أجاب أجابة صحيحة، وبنفس الأثناء يعلو صوت تشابك سنارات الصوف وقت الحياكة ونبض قلب الحبيبة معهم ليتّسق نغمٌ يحيي الروح ويملأ مخزوناً من الجمال لحاجتنا في الأيام والسنون اللاحقة، الله العليم الآن هو وقتها.
صوت سنارات الصوف متل صليل سيوف الفرسان أثناء المعارك، وكأنها، “الميمة” وبحياكتها وتشبيك الصوف ببعضه كانت تحارب البرد وتنازله لتغلبه من أول جولة ليصبح دفؤها من نصيب قلبنا وجسمنا الهزيل.
طبعاً بعد وجبة هنيّة للقلب ومحسّنة للمزاج كتلك، يكون في القلب مستقرّها، وللروح نصيبها من الهناء، بالتأكيد سترتخي المفاصل ويزيد تركيز الميلاتونين في الدم فيأتي النوم حكماً مع الأحلام السعيدة للقلب والروح.
في لحظة من اللحظات تلك تحسّ بخشونة ونعومة يدٍ “في الآن ذاته” على رأسك وخدّك لعلها تحاول أن توقظك “شوي شوي..” لتتابع نومك هانئاً في سريرك، أو تجد نفسك في السرير غير عالمٍ كيف ومتى وصلت إليه، لكنك تعلم حتماً من حملك وأخذك إليه، وكأن تلك اليد تقول لك: “حبيبي، مهما خشنت الدنيا عليك، نعومة يدي وحنان قلبي معك وملازمك أينما ذهبت”
بينما أكتب خطرلي بيت شعر لابن زيدون يصف بشكل دقيق نظرات عيون شقائق القلب لأولادهنّ:
والودُّ يظهر في العيون خفيُّهُ
إنّ الوداد سريرةٌ لا تُكتَمُ
كأن اللحظات التي ذكرتها هي سعينا للحلول البديلة، للمرور من لحظات القحط التي مرّ بها كل شخصٍ تغرّب عن بيته وأحبابه، ومثل سعي السناجب لتخبئة مخزونها بقلب أمها الأرض، التي لم تبخل عليهم ولن تبخل على مرّ السّنُين، وكلٌ يسعى بفطرته التي فُطِر عليها ليملأ مخزون قلبه بما يشتهي.
اليوم، ومع كل برد الهزيع الأخير من الليل، أحضرت قطعة خبز، دهنتها لبنة وسخّنتها على الفرن، وحمدت رب العالمين على نعمة مرور يدٍ حانية على رأسي يوماً من الأيام.
اقرأ/ي أيضاً:
زاوية: مطبخ من غربتي… تجارب السوريين الغذائية والمطبخية في بلدان المهجر 1