فادي جومر.
لم يعتقد المواطن السوري يومًا أنه سيكون مؤثرًا في أية عملية انتخابية، أو سياسية في بلاده. فلكم أن تتخيلوا حجم الدهشة والسعادة ربما، التي ستطيح بقلبه، حين تبدأ السياسة الألمانية بالتأثر بتدفق اللاجئين، حياتهم، وجودهم، والمفردة الأكثر غموضًا في تاريخ الهجرات: اندماجهم.
يبدو أن للاجئين عمومًا، والسوريين خصوصًا، أثرًا بالغًا في نتائج الانتخابات، فكلما أعلنت الإحصاءات عن تراجع الحزب الحاكم، كلما ضيّق الخناق على حياة اللاجئ، وحريته، وقدرته على بناء مستقبل حقيقي ناجح.
على أية حال، شخصيًا، ما تزال السعادة تغلب على مشاعري، لأني، أو لأن جعلَ حياتي غايةً في التعقيد، هو أمر مؤثر في انتخابات دولة عظمى.
أمّا ما لم أكن أتوقعه، هو أن أكتشف أن قانون الاندماج الجديد، فيه غبن للألمان أنفسهم، ويمنح اللاجئين مزايا كبرى، لا تقدمها الحكومة الألمانية للشعب الألماني. ولأني عشتُ مظلومًا، ويبدو أني سأموت مظلومًا، فأنا أقف مع كل مظلوم في العالم.
وسأحاول التعرّض لأهم النقاط التي ظلم فيها قانون الاندماج الجديد المواطنين الألمان:
- يوفر سكان القرى، الذين يشكل كبار السن الغالبية العظمى منهم، للقادمين الجدد، أجواءً هادئةً لدرجة الكآبة، وحياة اجتماعية شبه معدومة. كما أنهم قلما يهتمون بالأماكن العامة، والجامعات، إن وجدت أصلاً في تلك القرى، وهذه الأجواء كلها توفر فرصة ذهبية لأي لاجئ أو لاجئة في عمر الشباب، للتركيز، والتأمل، وتعوّده على قلة الكلام، والتواصل مع الذات، وفقط الذات، ولا أحد إلا الذات.. وقد فرّطت الحكومة الألمانية بكل هذه المزايا، ولم تجبر إلا اللاجئين على البقاء في القرى، بينما تركت الشباب الألماني يغادر قراه بالملايين متجهًا إلى المدن، دون أن تنبهه على الأقل إلى مخاطر هذا الهروب عليه.
- بحسب قانون الاندماج الجديد، على اللاجئ أن يخطط حياته حتى آخر يوم فيها، وكأنه سيعيشها كلها في ألمانيا، حتى لو أن الحكومة الألمانية سمحت له بالبقاء على أراضيها لعام واحد فقط، حتى لو أنه لم يصرح برغبته بالبقاء، أجل، عليك أن تخطط لحياة كاملة في ألمانيا حصرًا. في حين يستطيع المواطن الألماني التخطيط للعيش في أي بلد آخر، أو الهجرة حتى، مما يسبب له تشتتًا وتشويشًا كبيرين.
- يجبر القانون الجديد اللاجئ الذي لم يجد مدرسة لللغات بتوقيت يرضي موظف الجوب سنتر، يجبره على الذهاب إلى مدرسة تحوي إلى جانب تعليم اللغة، برنامجًا يوميًا مدته أربع ساعات، للاطلاع على مبادئ بعض المهن اليدوية، وفي هذا فائدة هائلة لا تمنحها الحكومة للألمان، لأنه من المعروف عالميًا أن الإطلاع على النجارة يفيد المحامي، والتدرب على أعمال الحدادة يزيد خيرة الصحفي، كما أن أعمال خياطة تصنع فارقًا معرفيًا هائلاً لخريجي كليات الاقتصاد.
- من منا لا يفضل العزلة؟ عدم الاختلاط مع الغرباء، ولا حتى المعارف، من يطيق الحياة في المدن التي توفر فرصًا للاطلاع على عادات الشعوب، وثقافتها، المدن التي تتوفر فيها المسارح، الحفلات الموسيقية، فرص العمل، الجامعات؟ يمنح قانون الاندماج الجديد راحة بال مطلقة للاجئ، ولا يعرضه لأيّ من التجارب القاسية التي قد يتعرض لها أي ألماني مقيم في مدينة. لا أستطيع أن أصدق أن هذا يحدث في دول العالم الحر.. أن تترك حكومات مواطنيها معرضين لمخاطر من مستوى حضور مسرح، أو فعالية ثقافية، بل قد يصل الإهمال لدرجة أنهم قد لا يمنعوهم من المشاركة فيها. في حين تحرص هذه الحكومة على نجاة اللاجئين ووضعهم في القرى.
- يتيح مجتمع القرى، الذي يحرص قانون الاندماج اللطيف على تثبيت اللاجئين فيه بالمسامير إن أمكن، فرصة عظيمة لتكوين علاقات مع الأرانب البرية، تعلم لغة السناجب، حكمة البحيرات، تدفق الأنهار، ما يمنح اللاجئ فرصة كبرى في إيجاد عمل وتطوير الذات، وبناء شبكة العلاقات الضرورية لإنجاز أي عمل حقيقي لمن يريد بناء مستقبل. بينما يضطر الألماني الذي أهملته حكومته لدرجة تركه يهاجر إلى المدن، يضطر لإضاعة وقته مع أصحاب الخبرات في اختصاصه، وتكوين علاقات بلا جدوى مع زملاء له في المهنة، أو شركاء محتملين، أو أصحاب الاختصاصات المكمّلّة لاختصاصه.
- في حين يعامل الألمان بشكل متساوٍ تمامًا أمام القانون، بصورة رتيبة ومملة، خالية من أيّة نكهة أو إثارة، ولا يمتلكون أدنى فرصة لاختبار كيف يمكن أن يحدد مزاجُ محققٍ مصيرَك، فيمنحك حماية مؤقتةً رغم أنك قدمت عشرات الأدلة على ما ينتظرك في بلدك من مخاطر. ويمنح محققٌ آخر حقّ اللجوء وإقامة كاملة لمدة ثلاث سنوات، لمن لا يملك من الأدلة سوى عينيه الحزينتين. أو كيف يمكن أن تحدد صدفة عمياء حرفيًا، هي تاريخ صدور قرار منحك اللجوء، إن كان قانون “الربط” في المكان الذي قررت الحكومة الألمانية وضعك فيه لانتظار القرار، سيشملك. بينما يمكن للاجئ مثلك، صدر قرار لجوئه قبل القانون الجديد بيوم واحد، التنقل بحرية.
- يستطيع اللاجئ الذي يعمل في الشأن العام، وما زال شابّا، إن تحلّى ببعد النظر، أن يدرك أنه سيتقاعد عاجلاً أم آجلاً، وأنه سيصير عجوزًا، ملولاً، يبحث عن الهدوء والسكينة وساعات التأمل على ضفاف بحيرة في غابة قريبة. وعليه، فلا معنى من أي محاولة لصنع مستقبل، أو البحث عن علاقات مفيدة للعمل، أو حضور نشاطات اجتماعية أو ثقافية، سيتقاعد بكل الأحوال، فلماذا لا يتقاعد منذ الآن؟ وأين سيجد فرصة لتنفيذ هذه الخطة الطموحة بشكل أفضل من فرصة القرار الذي يجبره على البقاء في القرية النائية التي قررت الحكومة الألمانية أن يبقى فيها، بعد التمعّن في طبيعة عمله، دراسته الجامعية، خبراته، وفهمها العميق لحاجته للحياة في عزلة مطلقة؟ في حين يضطر الألماني إلى العمل وتطوير قدراته ونشاطاته حتى عامه الستين..
- ختامًا.. ثمّة ميزة أخرى يبدو المواطن الألماني محرومًا منها، وإن كان لا ذنب للحكومة في هذا الحرمان، ولا حتى لقانون الاندماج، وإن كانت متعلقة به نوعًا. لا يجد الألماني الذي يوجه انتقادات لقانون اللاجئين، مواطنًا ألمانيًّا مثله، يطلب منه أن يرحل إن لم تعجبه القوانين، أو يراه مجرّد “علّاك” لأنه يطالب بمعاملة تحترم حقوق الانسان اللاجئ، وتحترم خصوصيته، ولا تتعامل معه وكأنه “شيء”. بينما سيجد السوري الذي يعترض على قانون قد يخرب حياته، ألف سوري يطلبون منه العودة إلى مطحنة الموت، أو ابتلاع ظلمه وقهره.
اقرأ للكاتب.