غيثاء الشعار. كاتبة سوريّة، تدرس (السياسات العامة) في برلين
(كولونيا ديجنيداد) مستعمرة الكرامة التي لم يكن لها من اسمها نصيب، والتي تبين لاحقاً أنها كانت مرتعاً للتعذيب والتحرش الجنسي بالأطفال.
بدت مستعمرة كولونيا ديجنيداد للوهلة الأولى مجتمعا ألمانياً صغيراً في تشيلي، أناس بالزي الألماني التقليدي، يزودون البلدة القريبة بالخبز والزبدة والخضار، أوركسترا وكورال، مدرسة، مدرجات للطائرات، ومستشفى تقدم خدمات مجانية حتى للتشيليين القاطنين بجوار المستعمرة لاستمالتهم وكسب ثقتهم.
تحولت هذه الصورة المثالية بعد عدة سنوات إلى جحيم بدا الهروب منه مستحيلاً، فأحيطت المستعمرة بالأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة وشبكة تجسس، عُزل السكان عن بعضهم، النساء والرجال كل على حده، وحُظرت ممارسة الجنس. حتى الأطفال فُصِلوا عن أهاليهم وسُلِموا لمجموعة ممرضات، فلم يعرف غالبية عائلاتهم! أُجبِر السكان على تناول الأدوية المخدرة، وتم صعقهم بالكهرباء لتسهيل السيطرة عليهم وإجبارهم على النسيان، ولم يتجرأ كثيرون على العصيان لأن العقوبات كانت شديدة أسهلها الحبس الانفرادي لأيام بدون طعام. الجميع كانوا تحت سيطرة شيفر وتأثير الأدوية المخدرة، وغالبيتهم أجبروا على الوشاية وتعذيب بعضهم البعض.
أنشئت (كولونيا ديجنيداد) جنوب تشيلي العام 1961 على يد “باول شيفر” الممرض السابق في الجيش النازي، والذي عمل لاحقاً بالرعاية الاجتماعية للأطفال والمراهقين، في منظمة تابعة لكنيسة كاثوليكية في مدينة ترويسدورف، الوظيفة التي طرد منها بداية الخمسينيات إثر اتهامه بالتحرش الجنسي بالأطفال، ولم تتم ملاحقته قانونياً.
عمل بعدها واعظاً دينيا مستقلاً حتى العام 1954 حيث أنشأ (طائفة) مسيحية بمساعدة اثنين من أصدقائه، وتبعه بعض الألمان المحبطين وفاقدي الدعم المعنوي بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة الأطفال والمراهقين اليتامى أو القادمين من عائلات فقيرة أو لديها مشاكل. قدم لهم شيفر ملجأً ونظّم لهم مخيمات صيفية، وهذا كله باسم الرب، لكن عام 1960 أخبر أحد الأطفال والديه أن شيفر يتحرش به، فحاول والدا الطفل مقاضاته، فقرر الهروب إلى تشيلي.
دعا أتباعه لمرافقته ووعدهم بحياة مثالية، فتطوع بعضهم للذهاب لأسباب دينية، ومنهم وافق بعد إقناعهم بأن ألمانيا ستقع تحت الاحتلال الشيوعي. الكثير من الأطفال اختطفوا، بعد أن أخبر شيفر الأهالي أنهم ذاهبون الى مخيم كورال، وبعد أن وقّع الأهالي موافقتهم تم تهريب الأطفال بالطائرات إلى تشيلي! نهايةً وصل ثلاثمائة ألماني غالبيتهم أطفال، انضم إليهم لاحقاً مواطنون تشيليون، واستقروا في مستعمرة بلغت مساحتها 137 كم.
فرض شيفر نفسه كإله على سكان المستعمرة، أجبرهم على العمل الطويل دون استراحة أو مقابل، مُنع التلفاز والراديو والتقويم وأي اتصال خارجي، كما كان يغتصب يومياً ثلاثة أو أربعة أطفال، ولا وسيلة لحمايتهم بغياب أهلهم!
مرّت ثلاثة عشر عاماً منذ تأسيس ديجنيداد حتى تسلم بنوشيه الحكم في تشيلي عبر انقلاب عسكري. لم تجر خلالها محاولات جدية لمعرفة ماذا يجري داخل المستعمرة، رغم تداول معلومات عن انتهاكات. وبعد أن حوّلَ بنوشيه تشيلي إلى سجن كبير ارتفعت نسبة البطالة وهبطت الأجور، واختفى الآلاف من معارضيه الذين تم تعذيبهم وقتلهم في ديجنيداد، حيث وجد بنوشيه نفسه بحاجة إليها فقدم الحماية لشيفر، ووفّر له الأخير معقلاً لتعذيب معارضيه وسجنهم.
حتى السفارة الألمانية في تشيلي كانت تحت سيطرة بنوشيه، فرغم المراقبة الشديدة والصعوبات الجغرافية، نجح بعض الألمان باللجوء اليها، لكن السفارة أعادتهم إلى مستعمرة كولونيا ديجنيداد.
في هذه الأثناء كانت منظمة العفو الدولية توثق كل ما تحصل عليه من معلومات، وتحاول رفع قضايا ولفت النظر لما يحدث هناك دون جدوى. حتى عندما كان ينجح أحد بالهروب الى ألمانيا ويتحدث إلى وسائل الاعلام أو الشرطة عن التعذيب والاغتصاب، كان شيفر يجبر سكان المستعمرة على الاضراب احتجاجاً، ويتم تصويرهم وتسريب الفيديوهات إلى وسائل الاعلام. وكلما قررت الشرطة الذهاب الى هناك كان أحد المتعاونين مع شيفر يخبره مسبقاً، فيجبر سكان المستعمرة على التصرف بشكل طبيعي أمام الشرطة.
ورغم أن الحكم في تشيلي أصبح ديمقراطياً عام 1990 بعد 17 عاماً من حكم بنوشيه، وازدياد الشكاوى على المستعمرة، وزيارتها من قبل رئيس حزب ألماني وتصريحه أن ثمة أشياء لا تسير كما يجب، إلا أن أحداً لم يحرك ساكنا! ولكن ارتفاع أصوات المنظمات الإنسانية وبعض المحامين والناجين الذين رفعوا دعاوي ضد المستعمرة، زاد من الاستياء العام تجاهها، فأمر الرئيس التشيلي الجديد السلطات بالتحقيق، ليهرب شيفر كما فعل قبل أربعين عاماً.
بدأت الحقائق المرعبة تتكشف، غسيل اموال ومراكز تعذيب، اغتصاب، كميات كبيرة من الذخيرة، رشاشات، قاذفات صواريخ، أسلحة بيولوجية وكيميائية، وكلها جُلبت من ألمانيا. العام 2005 حصل صحفي على معلومات تفيد أن شيفر مختبئ منذ ثماني سنوات في حقل قرب العاصمة الأرجنتينية، فتعقبه واعتقله البوليس الارجنتيني، وسُلِم الى تشيلي، حيث حكم عليه لمدة 20 عاماً، لكنه توفي بعد 5 أعوام في السجن عن عمر 88.
بعد تفكيك مستعمرة كولونيا ديجنيداد اختار بعض الضحايا مواصلة الحياة هناك، وعاد حوالي 50 منهم إلى ألمانيا، مازالوا يطالبون بتعويض عن سنوات التعذيب. ويعتقد بعضهم أن المخابرات الألمانية متورطة بشكلٍ ما فيما حدث، لأنها لم تقم بأي تحرك يذكر.
مازالت الأبحاث جارية حول المستعمرة من قبل الحكومتين الألمانية والتشيلية، وهناك خطة لإنشاء متحف لتوثيق ما حدث، وتحتفظ ألمانيا بوثائق لم ترفع عنها السرية بعد، لربما تعطي إجابات عن الكثير من التساؤلات التي بقيت دون أجوبة حول ديجنيداد، التي تحولت منتجعاً سياحياً يحمل اسم فيلا بافاريا، يقضي فيها السياح عطلهم الصيفية، مما يثير حفيظة المنظمات الإنسانية والضحايا الذين مازالوا على قيد الحياة، لأن أعمال سياحية وتجارية تقوم على آلامهم وعذاباتهم.
اقرأ/ي أيضاً: