باربارا ماينكه
تبدأ المادة الأولى من الدستور الألماني كما يلي: “كرامة الإنسان مصونة ويقع واجب حمايتها واحترامها على كل سلطات الدولة”.
لا تشكل كرامة الإنسان البند الأول من الدستور الألماني فقط، فالمادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 الصادر عن الأمم المتحدة تتحدث عن الشأن ذاته: “يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق”.
في ألمانيا يتفق معظم الناس على أن كرامة الإنسان قيمة مهمة وأساسية في المجتمع، لكن الآراء تختلف لدى السؤال عن تعريف هذه الكرامة. يعتقد البعض أن الكرامة شيء يتم اكتسابه، وأن التمتع بالكرامة يعتمد على الإنجازات أو الوضع أو السلوك، ولكن ليس هذا ما يعنيه الدستور الألماني عندما يقول: “كرامة الإنسان مصونة”. وإنما يعني الكرامة التي يتمتع بها كل إنسان لمجرد كونه إنسانًا، ولا تعتمد على السلوك والمزايا، ولا يمكن اكتسابها وبالتالي لا يمكن “فقدانها”، إنما يمكن المساس بها خاصة عن طريق أفعال تنكر على الإنسان إنسانيته كالعنصرية والعبودية والتعذيب.
تمنع المادة الأولى من الدستور الألماني جميع الأفعال التي تنتهك كرامة الإنسان، وليس من قبيل المصادفة أن تقوم المادة الأولى من بين العديد من المواد التي تشكل الدستور بحماية كرامة الإنسان، التي يجب ألا تقوم أي من سلطات الدولة بالمساس بها، ما يؤكد على أهمية هذا الحق الأساسي، وهنا يكمن جوهر المجتمع الألماني: كل إنسان يتمتع بكرامة.
قبل بضع سنوات كان هنالك جدل ساخن في ألمانيا حول تسويغ التعذيب في ظروف معينة. كانت هناك أصوات تقول بتسويغ التعذيب إذا كان يساعد في إنقاذ حياة آخرين، مع عرض لجميع الحجج المؤيدة والمعارضة للتعذيب، وكل الآراء القانونية والاقتباسات. لكن بيت القصيد هنا هو أن التعذيب لا يمكن تبريره في الدستور الألماني لأن ذلك ينكر على الإنسان كرامته المتأصلة فيه؛ الشيء الذي يجب ألا يحدث تحت أي ظرف. لقد كان الدستور الألماني حريصًا على ألا يتم تغيير هذا حتى من قبل حكومة أخرى: المادة 79 البند الثالث من الدستور تنص على أن المادة الأولى هي أحد المواد التي لا يمكن تغييرها بغض النظر عن أي قرارٍ لأغلبية في البرلمان.
وتمامًا كالدستور الألماني، يضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كرامةَ الإنسان فوق حقوق الإنسان جميعها. ومن جديد فإن كلا النصين لا يشكلان كرامة الإنسان بل يعترفان بها ويؤسسان لاحترامها. وعلى الرغم من أهمية هذا المبدأ، ما يزال بعض المشككين يقولون أن “كرامة الإنسان” هي مفهوم أو معتقد ديني، لكنّ الدستور الألماني كما كل الوثائق الدولية لحقوق الإنسان تضمن حرية الأديان والمعتقدات المختلفة، وبالتالي لا يمكن إقامة مبدأ كرامة الإنسان وفقًا لدينٍ ما دوناً عن غيره، لأن هذا من شأنه أن يتعارض مع تلك الحرية. ولكن هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال أن لا يستطيع الآخرون إيجاد روابط مع أديانهم الخاصة، وإنه من المثير أن نكتشف أن معظم الأديان تعلي شأن مفهوم الكرامة الإنسانية، على سبيل المثال يعتبر المسيحيون أن الجنس البشري خلق على صورة الله، كما يعرف المسلمون الموقع الخاص للجنس البشري بين الخلق وتمييز الإنسان كحاكم باسم الله على الأرض.
اليوم نرى في جميع أنحاء العالم كيف تعمل الحكومات والجماعات المسلحة والأفراد على انتهاك الكرامة الإنسانية للآخرين، ولهذا فإن حماية الدستور الألماني لكرامة الإنسان لا يجب أن يكون مجرد نظرية، وإنما على كل منا أن يحترم ويحمي كرامة الآخرين الإنسانية، وأن يطلب من حكومته حمايتها وعدم انتهاكها تحت أية ظروف، وأن نهتم ببعضنا، ونعترف بتساوينا في إنسانيتنا.
*محاميّة ألمانية وخبيرة في حقوق الإنسان، عملت في الكثير من المؤسسات الوطنية والدولية كالأمم المتحدة، وكمستشارة للبرلمان الألماني.
مقالات ذات صلة
الحرية الشخصية، المادة الثانية من الدستور الألماني
حرية العقيدة والضمير في الدستور الألماني