ضمن الصور والأفلام التي انتشرت من حلب المنكوبة، يظهر طفل صغير مات أخوته الثلاثة جراء القصف، ووسط حزنه ومعاناته تبدو قناعته بإرادة الله وأنه كتب لإخوته الموت وكتب له النجاة، تمنحه نوعًا من الرضا والتسليم.
ورغم أن هذه القناعة قد تكون مواسية للطفل ولغيره ممن فقدوا أحبتهم، ونالهم التهجير والتشرد، إلا أنها تزوّر الحقيقة، وتجعل من الله تعالى (حاشاه) مسؤولاً عن الجرائم كلها، وكأن كل أولئك الأطفال الذين قضوا ما كان لينتظرهم أي مستقبل، وما كانوا ليصبحوا أطباء أو مهندسين أو رياضيين أو موسيقيين أو نحاتين ورسامين، ولا آباء وأمهات، مما يطرح سؤال منطقي هل الله فعلاً مسؤول عن كل هذا؟
الحقيقة مغايرة تمامًا، فالله لم يكتب منذ الأزل أن يحدث ما يحدث اليوم، ولو كتب على القاتل أن يقتل لأصبح الحساب في اليوم الآخر سيناريو سخيفًا لا معنى له، يتناقض مع ما جاء في التنزيل الحكيم عن عدالة الله المطلقة، وحول مسؤوليتنا عن أعمالنا بما فيها من خير أو شر {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة 7 – 8).
لكن الطغيان العقائدي الموروث كرس في عقولنا ما يعيق تطورها، بحيث تلاشت إرادة الإنسان لصالح “المكتوب”، وفهمنا {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا} (التوبة 51) على اعتبار أن الله كتب على فلان الفقر وعلى آخر الغنى، وعلى هذا أن يموت طفلاً، وذاك يعمر حتى المائة.
بينما الصحيح أن الله تعالى وضع قوانين الكون من حياة وموت وليل ونهار وصحة ومرض وغنى وفقر وغيرها، كل في كتاب {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (الحديد 22)، وترك لنا دراسة هذه الكتب والقضاء فيها لنتمكن من السير قدمًا.
وكلمة “كتبَ” في اللسان العربي تعني جمع أشياء بعضها مع بعض لإخراج معنى مفيد، أو موضوع متكامل، فإذا اجتمع مهندسون في مكان لدراسة مشروع بناء ما سمي مكان اجتماعهم “مكتب”، وإذا أردنا دراسة كتاب البصر مثلاً علينا جمع كل المواضيع المتعلقة بالبصر بتتال معين ومن ثم دراستها. وكذلك أعمال الإنسان كلها كتب، ككتاب النوم وكتاب الطعام وكتاب العمل.
والإنسانية في نشاطها العلمي تبحث عن الكتب، فإذا أردنا أن تطول الأعمار علينا دراسة الظواهر التي تؤدي إلى الموت، وهذا ما يفعله الطب، فإذا اجتمعت الشروط الموضوعية التي تؤدي إلى الموت حدث لا محالة {َإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (النحل 61)، والموت كتاب مؤجل مرهون تأجيله بشروطه حدوثه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} (آل عمران 145) و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد 38) فعندما تقدم طب الأطفال وجرى تلقيحهم ضد الأمراض المعدية خفت أعداد وفياتهم بشكل ملحوظ، وعندما تم وضع قوانين السير ورفعت جاهزية وسائل النقل قلت وفيات حوادث السيارات.
فالواقع الحتمي لأي حدث لا بد أن يسبقه كتاب هذا الحدث، وما يصيبنا في حياتنا لا يخرج عما وضعه الله تعالى من قوانين، أي لن نمرض بمرض خارج عما هو موجود في كوكبنا، ولن يحدث معنا ما يفاجىء الله تعالى أو ما هو خارج عن علمه بالموجودات، وبهذا المعنى نفهم قوله تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد 22 – 23).
فكل المصائب التي تحدث في الأرض من هلاك ودمار وغيرها لا تكون إلا من خلال شروط موضوعية، أي لا معجزات هنا، ففي حالة الهزيمة مثلاً يجب دراسة الشروط التي أدت لها، كذلك في حالة النصر، وبالتالي يجب على المنتصر ألا يفرح بنصره، وعلى المهزوم ألا ييأس من هزيمته، بحيث إذا درسا كتابي النصر والهزيمة يمكن أن تنقلب الأدوار، والأحداث التاريخية مفتوحة.
فالله تعالى لم يكتب منذ الأزل أن يحدث لسوريا ما يحدث، ولنعلم أن هذه الأحداث قد قصرت أعمار الناس في هذا البلد، بغض النظر عن المسؤول، ويجب تقديم المسؤولين للمحاكمة في الدنيا قبل الآخرة، كما أن القناعة بالمكتوب قد أعفت الأطباء من أية مسؤولية تجاه المرضى، في حين يجب أن يحاكموا على ما يرتكبونه من أخطاء.
وهنا يتبادر لذهن القارىء قصة أبي لهب، عم الرسول الأعظم، ورب قائل أن الله كتب على أبي لهب، أن يكون كافرًا، ونقول أن هذا غير صحيح، فهو وضع نفسه في نقطة اللاعودة حين اتخذ مواقف علنية عدائية متطرفة من النبي (ص)، ولم يعد بإمكانه الرجوع عنها، وسورة المسد نزلت بعد إعلانه وزوجه هذا العداء، والقوانين الظرفية والاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان ويختار مواقفه وسلوكه ضمنها بملء حريته هي مناط الثواب والعقاب.
ولو قلنا إنه قد سبق في علم الله أن يُهجّر أهل حلب لأعطينا الحجة لمن قام بتهجيرهم بالقهر، كما لو قلنا إن الله علم منذ الأزل أن الحجاج سيرجم الكعبة بالمنجنيق، وهذا غير صحيح، إذ سنضع علم الله في غير محله، وسيبدو وكأنه خلق كل شيء وبرمجه ثم ترك الكون ينفذ هذا البرنامج، أي (حاشاه) كعالم نووي كامل العلم يخبرنا كل شيء عن الذرة، لكنه عاجز، لا يستثمر هذه المعلومات لا للخير ولا للشر، وفي هذه الحالة يصبح الإنسان ذا قدرة تفوق قدرة الله، لأنه وظف معلوماته المتواضعة في تطويع قوانين الطبيعة قدر الإمكان لمصلحته، وهذا أيضًا غير صحيح، فالله تعالى كامل المعرفة ولا يحتاج لتزكيتنا، وهو يعلم ملايين الاحتمالات لتصرفاتنا وهي متكافئة بالنسبة له، أي لا يخضع لعنصر المباغتة أو التمني. وفي كل لحظة هناك تطابق كامل بين أحداث الوجود الكوني والوجود الإنساني وبين علم الله، وإرادة الله تعالى هو وجود ملايين الاحتمالات في السلوك الإنساني تقوم كلها على الأضداد، وإرادة الإنسان ضمن الظروف التي يعيشها، هي التي تحدد أحد الاحتمالات الممكنة، والله يسجل عليه ذلك ويجازيه به، ومنها يظهر مفهوم الخطأ والصواب والطاعة والمعصية.
لقد ترسخت الجبرية في أذهان الناس وضمائرهم، باعتبارها جزءًا من العقيدة الإسلامية، حتى أصبحوا يربطون كل المآسي التي يعيشونها بـ”إرادة الله”، والله بريء منها.
ويؤسفني أن أخبرك أيها الطفل الحلبي، أن الله لم يكتب على إخوتك الموت في هذا الزمن تحديدًا، وأسفي ناجم أن قناعتك التي تحملها رغم ما فيها من المواساة، إلا أنها خاطئة تمامًا، والله تعالى لا يفرح لمصابك، لكنه ينتظر من الناس أن يعملوا، ليرى نتيجة أعمالهم، وترك لهم أبواب المعرفة مفتوحة لعلهم يستطيعوا القضاء في حياتهم، ومن ثم في أقدارهم، وربما يستطيع جيلكم أن يحقق ما عجزنا عن تحقيقه.
مواضيع ذات صلة: