يوسف شهاب*
أشهر من أنجبت ألمانيا من الأدباء، “يوهان فولفغانغ فون غوته” كان ومازال الأديب الشاعر الألماني الأكثر أهمية في القرون الماضية، وحتى يومنا هذا، وهو الوحيد الذي لا خلاف عليه فيما قدم للإنسانية من أعمال مهمة في الأدب والشعر والمسرح والفلسفة.
ولكي نعرف ماهي قيمته، لنا أن نتخيل عندما نتحدث باعتزاز كبير عن العقاد، طه حسين، توفيق الحكيم، أو نجيب محفوظ، لكن “غوته” بالنسبة للشعب الألماني هو كل هؤلاء معًا، ولا يزال يعيش بأعماله في عقول وقلوب كل مواطن.
ولد “غوته” في 28 أغسطس عام 1749 في مدينة فرانكفورت بألمانيا، لعائلة فوق المتوسطة، وعندما كان “غوته” في العاشرة من عمره، قام الفرنسيون باحتلال مدينة فرانكفورت، واحتل الجيش منزل “عائلة غوته”، وترك ذلك أثرًا سيئًا في نفسيته. وعندما أتم سن السادسة عشر، قام والده بإلحاقه بكلية الحقوق جامعة “لايبزيغ”.
كان والداه حريصين على أن يحصل ابنهما على قدر كبير من العلم، وكانا يرجوان أن يصل إلى مناصب عالية في الدولة، وبالفعل، حقق “يوهان” أملهما وتخرج من كلية الحقوق، وعلى الرغم من دراسته للقانون إلا أن ميوله وحبه كان للأدب، فكان دائمًا متفكرًا ومتأملاً لكل شيء من حوله.
وأثناء فترة دراسته بجامعة “لايبزيغ” تعرف على الحب لأول مرة في حياته، فأحب فتاه عرفت باسم “آنا كاتارينا شونكوبف” وكانت ابنة رجل يمتلك حانة كان “غوته” يتردد عليها، وكتب عنها في العديد من قصائده باسم مستعار وسماها “آنيت”، ولكنها لم تكن تقابل حبة بالمثل فانصرف عنها.
في الجامعة وأثناء الدراسة كتب “غوته” العديد من القصائد والروايات الأدبية، وقام فيها بتوضيح الأسباب التي جعلته يترك محبوبته الأولى، كما عرض في هذه الأعمال آنذاك العادات السيئة التي كانت منتشرة في الأسر في ذلك الوقت في “لايبزيغ” وباقي المدن الألمانية، وفي عام 1767 قام بنشر مجموعة من أشعاره بعنوان “آنيت”. في عام 1768 عاد غوته إلى فرانكفورت ومرض مرضًا شديدًا فلزم فراش المرض لفترة كبيرة، وأثناء فترة مرضه قام بدراسة كتب الفلسفة والسحر والتنجيم والكيمياء والروحانيات.
بعد أن استرد “غوته” صحته، قام والده بإرساله إلى جامعة شتراسبورغ من أجل إكمال تعليمه في الحقوق،
كانت كل مرحلة في حياته لها أثارها وإنجازاتها ففي أثناء تواجده في شتراسبورغ قام بجمع المادة اللازمة لكتابة روايته “جوتس فون برليخنجن” هذه الرواية التي حققت الكثير من الضجة عند ظهورها والتي كان الأدب الفرنسي مسيطرًا عليها، وكانت بمثابة فتح جديد في عالم الأدب الألماني.
حصل “غوته” على الشهاده الجامعية في القانون عام 1771، وعاد مرة أخرى إلى فرانكفورت ليمارس مهنة المحاماة، وبعد ذلك انتقل إلى “فتزلار” وهي مقر المحاكم الامبراطورية ومحكمة الاستئناف العليا، وذلك حتى يقوم بالتمرن على أعمال المحاماة، وأثناء ذلك تعرف إلى الكثير من القضاة ورجال السلطة، وتوطدت صلته بهم.
وفي “فتزلار” كان الحب الثاني بانتظاره، فتعرف إلى فتاة تدعى “شارلوت” وأحبها من جانب واحد لأنها كانت خطيبة أحد أصدقائه، وتألم في حبه لها، فقام بتخليد هذا الحب في روايته الشهيرة “آلام الشاب فيرتر”.
كانت الفترة الواقعة بين أعوام 1771 و 1775 فترة مهمة في تاريخ “غوته” الأدبي فأنتج بها أشهر رواياته نذكر منها: “جوتس فون برليخنجن، كلافيجو، آلام الشاب فيرتر، الآلهة، الأبطال وفيلاند، ستيلا”، والعديد من القصائد والمؤلفات الأدبية الأخرى، مما جعله يرتقي سريعًا بين الأدباء الألمان، وفاقت شهرته وتجاوزت حدود ألمانيا.
في عام 1774 تعرف إلى “كارل أوجست” دوق مقاطعة (ساكسونيا – فايمار – أيزيناخ) بمدينة “كالسروه” فقام بدعوته لزيارة “فايمر” وذهب إليها عام 1775، وأصبحا صديقين حميمين، وقام بتعيينه في منصب “كاتم أسرار الدولة”، وكانت “فايمر” آنذاك قبلة لرجال الفن والأدب والعلم، فقبل الوظيفة، ومنحه الدوق منزلاً فخمًا على ضفاف أحد الأنهار ليمكث به.
ومما شجع “غوته” على البقاء في فايمار هي الدوقة “إماليا” والدة الدوق، والتي كانت من المهتمين بالأدب والموسيقا، فرحبت به واستضافته، وكان قصر الدوق مركزًا أدبيًا يلتقي فيه العديد من العلماء والأدباء والشعراء.
عكف “غوته” خلال عشر سنوات على دراسة شؤون الدولة والتفاني في عمله، وعمل على الاهتمام بالفنون والعلوم المختلفة والارتقاء بها.
وفي فايمر تعرف “غوته” إلى الأديب والشاعر “فريدريش شيللر” الذي كان من الشخصيات التي أثرت في حياته والذي ارتبط معه بصداقة قوية، وترفع كل منهم بها على المنافسات والأحقاد التي قد تنشأ بين الشعراء والأدباء الكبار، وظل الاثنان في علاقة وطيدة حتى جاءت وفاة “شيللر” عام 1805 فقال “غوته” بعد أن علم بخبر الوفاه “إنني قد فقدت نصف حياتي” كذلك قال “شيللر” قبل وفاته، إن صداقته لغوته أهم حدث في حياته.
في عام 1786 قام “غوته” بالسفر إلى إيطاليا، ومكث هناك أكثر من عام ونصف، وكانت هذه الرحلة بمثابة فترة راحة واستجمام وانبهر بالسحر والجمال الإيطالي، فتعمق في حضارتها وسحرها وقام بإبداع عدد من أجود وأفضل رواياته التمثيلية مثل “افيجينيا، ايجمونت وكرنفال روما”
عقب عودته إلى “فايمر” قام الفرنسيون بقيادة بونابرت باحتلالها، وقد كان هناك لقاء بين كل من غوته ونابليون وقد ترك غوته أثرًا طيبًا في نابليون الذي أبدى إعجابه الشديد بشخصيته، وقال عنه عقب انصرافه “هذا إنسان”، ومن الجانب الآخر تعاطف غوته مع نابليون عندما بدأ نفوذه في الاضمحلال في أواخر عهده عام 1813 .
كان “غوته” يميل في اتجاهه الأدبي إلى منهج “العاصفة والتيار” وكان هذا هو التيار السائد في هذا العصر والذي وقف في مواجهة تيار آخر عرف بـ “عصر التنوير” أو عصر الدليل المادي، ثم ما لبث في مرحلة أخرى من حياته أن تحول إلى “الكلاسيكية” والتي تسير على نهج الحضارة الرومانية اليونانية القديمة.
أما أشهر أعمال غوته على الإطلاق فهي “فاوست” الملحمة الشعرية من جزئين، وهو الشخصية الرئيسية في الحكاية الألمانية الشعبية عن عالم الطبيعة الألماني الدكتور “يوهان جورج فاوست” الذي يحقق نجاحًا كبيرًا ولكنه غير راضٍ عن حياته فيُبرم عقدًا مع الشيطان يسلم إليه روحه في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكافة الملذات الدنيوية.
جاءت وفاة غوته في الثاني والعشرين من مارس 1832 بفيمار، وهو في الثانية والثمانين من عمره، وذلك بعد أن أثرى المكتبة الألمانية والعالمية بالعديد من المؤلفات الأدبية القيمة، وقد كان لغوته أثرًا كبيرًا في الحياة الأدبية في عصره الأمر الذي جعل التاريخ يردد اسمه كواحد من أعظم الأدباء.
*كاتب ألماني-مصري يعيش في فرانكفورت منذ 50 عامًا.