صبيحة خليل*
في ألمانيا، وربما في كل أنحاء أوروبا ثمة حبل سري يربط الدولة كمؤسسات ونظم وقوانين، مع مواطنيها، ويوثق عرى هذه العلاقة المتبادلة ليس لتنظيم الحياة اليومية للأفراد والمواطنين وحسب، إنما لمنع أي التباس أو غموض وحتى درءًا للفساد.
هذا الحبل السري المتين ما هو إلا صندوق البريد، تلك العلبة المعدنية الصغيرة المعلقة على كل باب في ألمانيا. فحتى القرى الصغيرة النائية حسب مفهومنا، أي التي لا يتجاوز عدد سكانها أصابع اليد الواحدة، صندوق البريد هو حبلها السري والنسغ والشريان الذي تغذي من خلاله الدولة مواطنيها بحليب المواطنة والطمأنينة.
المفارقة أن هذا الحبل يتجاوز المواطن الألماني ليشمل بسرعة البرق كل من يقيم في ألمانيا، فما أن تطأ قدماك الأراضي الألمانية سرعان ما تشعر بأهمية تلك العلبة المعدنية. كيف لا؟ و صندوق البريد كخلية النحل التي لا تهدأ حتى في أيام العطل والأعياد.
هذا الصندوق الذي لم يكن له وجود في حياتنا قبل موجات اللجوء التي عصفت بنا. أو لنقل كان محصورًا بفئة من الأثرياء من أصحاب الشركات والمؤسسات لاستلام العقود والدعايات. أو بالبعض من المثقفين حتى تصلهم بعض الجرائد الثقافية، ربما من باب الفانتازيا. لا أكثر ولا أقل. وأتذكر هنا كيف ناضل البعض من الأصدقاء ليظفر بتلك العلبة المعدنية. رشاوٍ ووساطات وموافقات ليتباهى بالنهاية أمام الأصدقاء بذاك المفتاح الأصفر.
ولكن في زحمة اللجوء وتعب مسافات المسير الشاقة عبر الحدود والبحار، ثمة عبء إضافي يتوجب على اللاجئ إتقان التعامل معه، وإلا اختلط عليه الحابل بالنابل.
قبل عدة أيام طلبت مني موظفة الجوب سنتر أن أترجم عنها بضع كلمات لأحد اللاجئين الذي تخلف عن موعده في مكتبها، فرد الرجل بحزن وأسف شديدين: “لم يخبرني أحد بالموعد، وإلا لما تغيبت” فقالت الموظفة وهي تسحب درج مكتبها وترفع في وجهه نسخة عن رسالتها: “قولي له إنني أرسلت له رسالة بالموعد. فعليه أن يتابع بريده الخاص من خلال صندوقه الخاص”، فأسقط في يد الرجل وقال مندهشًا: “أنا لدي صندوق بريد؟!” فقد اكتشف الرجل للتو أن لديه صندوق بريد، وهو أمام تحمل مسؤولية متابعته. هذا الصندوق هو لقمة عيشه، في البلد الجديد.
في ستينات القرن الماضي أنشئ في حلب مكتب بريد عملاق. بالقرب من ساحة سعد الله الجابري. في مركز مدينة تضج بالحيوية والنشاط، مدينة تمتد لعشرة آلاف عام من الحضارة، كانت المهمة الرئيسية لهذا المبنى العملاق فقط تسليم واستلام أشواق العشاق والمغتربين من حلب الى شتى أصقاع المعمورة. وبما أن الدولة فوق المواطن، فلم يكن أحدنا يستلم رسالة من أية جهة رسمية. وعناويننا كانت متاهات مرسومة بالكلمات، وأكاد أجزم أن سعاة بريدنا كانوا عباقرة، وإلا لما كان بوسعهم فك تلك الشيفرات (العناوين). فعلى سبيل المثال “حلب الجابرية، مقابل صيدلية باسل – جانب الفرن الآلي – محل تصليح الماكينات الكهربائية السيد س ص ومنه ليد ب ق”. لم تكن هناك أرقام للشوارع ليستدل بها أحد، في مدينة ضخمة مثل حلب.
هذا من جهة العناوين، أما من جهة علاقة الدولة بالمواطن ف تلك العلاقة كادت تكون مقطوعة، فلقمة العيش ليست من شأن الدولة، إنها شأنك الخاص وحين تترك عملك كأنك تستقيل من الحياة نفسها، فلم تكن ثمة مؤسسات تكترث بك لتقديم يد المعونة. أما فروع الأمن فهم بطبيعة الحال سيستدلون عليك كائنًا من كنت، أينما كان العنوان في الجنة أم في النار.
اليوم، وقبل الحرب، بعقد أو أكثر من الزمن، أصبح مكتب بريد حلب مقفرًا، وباتت الرسائل قطعًا نادرًا. فتحول المبنى إلى مركز لدفع فواتير الهاتف والإنترنت، وباتت قاعة الاستقبال التي كانت تعج يوميًا أيام زمان بمئات المراجعين، أشبه بقلعة قديمة متطرفة لا يمر بها أحد. ثمة موظف وحيد عجوز ينظر إليك بكسل من خلف نظارته السميكة بلا شغف، فالمؤسسة بكاملها تقاعدت نتيجة وسائل الاتصال الحديثة من الهواتف النقالة والبريد الالكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي.
يؤدي البريد دورًا هامًا بين الفرد والحاضنة الكبرى، أي الدولة، صحيح أن الدفء الشخصي في تلك الرسائل قد يكون غير صريحًا، وتنتفي فيها الكلمات الحميمية الخالية من المشاعر والأحاسيس .إلا أنه ثمة مساحة كبرى تلقي بظلالها عليك، هي بمساحة الوطن.
أخيرًا، ومن باب الطرائف التي حصلت مع أحد الأصدقاء السوريين الذي ذهب إلى أحد مراكز تعليم اللغة الألمانية للتسجيل، حيث رد عليه الموظف: “حسنًا هذه هي الرسالة التي سأرسلها لك غدًا، وبعدها تبدأ بالدراسة” فقفز هذا الصديق مستغربًا: “ولماذا البريد؟! أنا هنا أمامك ويمكنني استلامها الآن” فابتسم الموظف قائلاً: “لا يجوز يا عزيزي. يجب أن أضمن حقي، بأنها وصلتك رسميًا، ممهورة بخاتم مؤسسة البريد وبالتاريخ”. وهذا بالضبط ما كنا نردده نحن السوريين بلغتنا العامية ونقول “حتى لا تضيع الطاسة”، فالطاسة هنا مصانة ولا شيء قابل للتسويف والتأويل.
*كاتبة سورية