ضاهر عيطة.
مع أول أيام دخول اللاجئ إلى ألمانيا، يجد نفسه وقد فرضت عليه إقامة شبه إجبارية في مركز الإيواء، وهي تمتد لشهور عديدة، وأحيانًا لعام أو أكثر، يقضيها منتظرًا منحه الإقامة، والتي دونها لا يستطيع فعل شيء على الاطلاق، وحتى لو فكر بدخول دورة لتعلم اللغة، فربما لا يجد مقعدًا شاغرًا له نتيجة ضخامة أعداد المنتسبين لدورات تعلم اللغة الألمانية، ولعل ما يجده متاحًا له في مثل هذه الحالة، ليس أكثر من إمكانية الأكل والنوم والشرب، وفي أحسن الحالات إدخاله للعمل في نظام اليورو جوب، والذي يتقاضى العامل فيه واحد يورو مقابل كل ساعة عمل، أي إننا هنا أمام ظروف سواء قصرت أو طالت مدتها، من شأنها أن تساهم بتثبيط قدرات اللاجئ، وإحباط معنوياته وإفقاده القدرة على استيعاب مفهوم الاندماج، والذي يفترض به أن يؤهله ليغدو مواطنا فعالاً في المجتمع، تترتب عليه جميع الواجبات والحقوق التي تترتب على المواطن الألماني، فهناك نصوص في الدستور الألماني تشير إلى وجوب اعتراف الدولة بحق كل إنسان على أراضيها بعيش حياة كريمة، وأن يحصل على العمل والسكن، وأن يحافظ على مستواه المعيشي المناسب، وعلى أمان اجتماعي وتعليمي، وعلى عدم المساس بكرامة الإنسان مهما كان عرقه أو جنسه أو دينه، فاحترام كرامة الإنسان وحمايتها واجب مفروض على كل أجهزة الدولة، وعلى اللاجئين من كافة الجنسيات أن يعوا هذا الأمر، ليساهموا بدورهم في صون حقوقهم وكرامتهم التي ضمنها لهم الدستور الألماني .
نعم، فمن المؤكد أن هناك ضغوطًا هائلة على مؤسسات الدولة نتيجة الأعداد الكبيرة للاجئين القادمين الى ألمانيا، وهو ما يؤدي إلى تعقيد الأمور، خصوصًا إذا ما علمنا أن معظم هؤلاء اللاجئين أتوا من أماكن منكوبة كأفغانستان، العراق، سوريا.. وجميعهم يحملون معهم آلامًا وذكرياتٍ عن الحرب والموت والغرق، مما يعني أن طاقتهم البشرية لم تعد قادرة على تحمل مزيد من الأوجاع، وهذا ما يجعلهم بأمس الحاجة لمعاملة من نوع خاص تسهل عليهم عملية الاندماج وترشدهم إلى الطرق الأفضل. لكن من غير المنطقي، أن يساق اللاجئ وهو على هذا القدر من المعاناة، إلى مراكز إيواء، تحولت في بعض المناطق، أشبه ما تكون إلى معسكرات اعتقال، وقد يمتد المكوث فيها أحيانًا، لسنة أو أكثر، دون الحصول على وثيقة الإقامة.
إن فكرة الاندماج ليست مَركبة تطلق في الهواء، وعلى اللاجئ التشبث بها كيفما اتفق، ليجد نفسه وقد تحول الى نتف فكرية ووجدانية مبعثرة في متاهات الحيرة، إنما هي تقوم بالأساس على مبادرة المجتمع الألماني كي يشجع هؤلاء الغرباء، ويرشدهم إلى سبل الاندماج المثلى، ليغدو هذا اللاجئ، قادرًا وفعالاً على نحو أفضل، فالاندماج حالة تبادلية بين طرفين، ويستحيل أن تتم من خلال طرف واحد ، فكيف يمكن للاجئ أن يندمج، وبين فترة وأخرى ، تصدر قوانين من شأنها مضاعفة حيرته وتشتته؟ خصوصًا وأنه يُعمل الآن من قبل السلطات الألمانية، على تقييد وتحديد مكان إقامته {سكنه}؟ ثم كيف يمكن للاجئ أن يندمج وهو يرى شهادته ومؤهلاته العلمية والمهنية والحرفية وقد غدت تفاصيل لا قيمة ولا معنى لها لدى المؤسسات الألمانية في بعض المناطق؟ فهناك عدد من الأطباء السوريين على سبيل المثال، يمنع عليهم ممارسة الطب، وكذلك حال بعض المهندسين والمعلمين والدهانين والنجارين والحدادين إلخ.. وهذه كلها خبرات مركونة على رفوف الإهمال والعزلة، في وقت يُطلب من هؤلاء أن يندمجوا!.
إن هذا الاندماج الذي تدعو له المؤسسات الحكومية، يتطلب أرضًا خصبة، تستوعب القادم الجديد، وتفتح أمامه آفاق العيش والأمل، لا أن تسدها أمامه، وتمارس عليه الضغوطات المادية والمعنوية، فهو دائمًا مهدد بعقوبات، ما لم يدخل في عملية الاندماج، أي أن ينخرط في المجتمع ويتعلم لغته الأم، وأن يتقبل عاداته وتقاليده، وأن يرضخ لقوانينه، ويحترم علاقاته الاجتماعية، وإلا ستفرض عليه عقوبات صارمة ومصيرية.
ومن جهة ثانية، يرى ويسمع اللاجئ، وفي كل يوم، عن النشاطات والدعوات التي تقوم بها الجهات اليمينية المتطرفة، والتي تدعو إلى طرده، وتحض على كراهيته، فكيف يتوفر له مناخ الاندماج، وكل هذه التهديدات والصعوبات تحيط به؟. ألا يؤدي هذا إلى الإحساس بالضياع والتشتت والعجز إزاء كيفية ولوج أبواب الاندماج، خصوصًا وأن الأحزاب والجهات الداعمة للاجئين في بعض المناطق لا تقوم بما يكفي لتخفيف الأعباء والضغوطات النفسية الواقعة عليهم، وهي ليست فاعلة على أرض الواقع ، نتيجة قلة الكوادر البشرية لديها، والضغط الناتج عن العدد الكبير للاجئين، في حين نرى في مناطق أخرى ظروفًا افضل بكثير، حيث تتواجد فيها مؤسسات ومنظمات، أثبتت، وتثبت كل يوم، قدرتها وفعاليتها، في تلبية احتياجات اللاجئين، وأجادت، وتجيد، التعامل معهم على نحو يدعو للإعجاب والتقدير، حيث يتم التفاعل المباشر بين كوادر هذه المؤسسات والمنظمات وبين اللاجئين، بقصد تعويضهم عن الحرمان، وعما عانوه جراء تهجيرهم من أوطانهم، ويتم تشجيعهم ومساعدتهم على توفر شروط الاندماج وإشراكهم في نشاطات فنية وثقافية واجتماعية متنوعة، ولعل مثل هذه النشاطات التفاعلية، تساهم بمنح اللاجئين شعورًا بالمشاركة الوجدانية، وبالعيش المشترك، على نحو يفوق كل القوانين التي تصدرها المؤسسات الحكومية بخصوص اندماج اللاجئين، والتي قد تؤدي في بعض المناطق، وفي بعض الأحيان، إلى تكريس عزلتهم واغترابهم أكثر فأكثر.