منصور حسنو*
(نحن أحرار الآن، أنا سعيدة جدا لأن أطفالنا سيكون لهم مستقبل أفضل وسيحصلون على تعليم جيد) بهذه الكلمة اختصرت اللاجئة التي صار اسمها لاحقا كاترينا حفلة تعميد أسرتها في برلين.
تثبت المحنة السورية يوما بعد يوم أنها ثورة عالمية أوقعت دول العالم السياسي الحديث في اختبارات عدة؛ بل تعدى فعل الثورة البعدين الكوني ببعده الإنساني -الذي يتجاوز الهوية والدين (مسألة اللجوء)-والتاريخي باستحضاره التراث، وإعادة النظر فيه وفحصه، وكذلك إعادة النظر وفحص النظام العالمي الجديد بمؤسساته الدولية والعصرية.
جاء السوريون وغيرهم إلى الغرب أفواجا أفواجا هربا من الموت والدمار، والجوع والحصار، وكانت ألمانيا البلد الذي نال شرف حمل الحصة الأكبر من هذه الأفواج، ومع قدوم السوريين وغيرهم من أفغان وشيشان وعرب وكرد كثر الحديث عن محاولات تسعى لتنصيرهم، وتعرض اللاجئين للاغراءات ليتحولوا عن معتقداتهم السابقة، والأمر لا يخلو من تهويل وتضخيم كبير، وقد يعبر عن أزمة الهوية الضائعة التي افتقدها اللاجىء في موطنه الأصلي؛ تلك الأزمة التي ما زال يحمل معه آثارها وهو قادم إلى بلد لا يطلب من لاجئيه أكثر من أن يندمجوا في حاضنة مجتمعه، ويتصرفوا كأي مواطن ألماني يتمتع بحقوقه، ويؤدي واجباته.
ومع محنة السوريين هذه وانتقالهم من حرية خرجوا بثورة من أجل نيلها، وصولا بهم إلى لاجئين توجهوا إلى دول عدة كألمانيا وغيرها؛ توضع الحرية التي خرجوا من أجلها على المحك، وهنا نتذكر قول آلان: (وراء ظل الحرية القائمة على الاختبار تنكشف الحرية الحقيقية القائمة على الهيمنة) ففي الوقت الذي يرغب فيه كثير من السوريين في ألمانيا وغيرها من البلاد الباردة تقديم نموذج جيد عن الإسلام لمسح الغبش والتشويش الذي خلط بين الاسلام والإرهاب -وهو أمر جدير بالاحترام- ومع تطور الأمر في بعض الاحيان للدعوة لهذا الدين جهارا نهارا -وهو أمر مسموح به طالما أن الدعوة للإسلام والتبشير به لا تشكل خرقا للقانون وتتم بظروف طوعية مسالمة بعيدة عن الإكراه- أقول رغم ذلك كله لا يتوانى هؤلاء الدعاة المتحمسون للإسلام تجديد خوفهم وتحذيرهم للمسلمين ألا يقعوا ضحايا دعوة المبشرين المسيحيين، الأمر الذي يجعلنا نشبه الإسلام بمنزل لا يفتح بابه مرتين -ادخل وأغلق الباب- وأصبح الخروج منه كبيرة من الكبائر التي يستحق صاحبها القتل: من بدل دينه فاقتلوه (الحديث).
جاء في المادة (18) من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان: “لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق أي دين وتغيير دينه أو معتقده والحق في إظهار دينه ومعتقده من خلال الإفصاح والدعوة والممارسة والعبادة والالتزام بما ينص عليه هذا المعتقد أو الدين”.
ونحن نعلم أن الإيمان والكفر قضية شخصية لا تعني إلا صاحبها، طالما أن حرية المعتقد لا تسيء إلى النظام العام، ولا تهدد أمن الدولة والمجتمع، حيث تكفل الدولة الحديثة ومبادئ حقوق الإنسان أن يختار المرء الدين الذي يريد؛ سواء كان دين سماويا أو وضعيا، وتسمح له كذلك أن ينقلب على الدين الذي ولد عليه، ويختار الدين الذي يريد شريطة ألا يكون الإكراه بكل أشكاله الحسية والمادية والمعنوية وسيلة لدخول الدين الجديد، فالدين والإكراه لا يجتمعان.
كتب مانفريد نوفاك في شرحه للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية – الذي ترفض المملكة السعودية وبعض الدول العربية التوقيع عليه – مايلي: “لاشك أن حرية الفرد في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره تتضمن الحق في الانسحاب من عضوية الجماعة الدينية والانضمام لجماعة أخرى”، كما أكدت المادة (18) سالفة الذكر على منع الإكراه الذي يخل بحق الفرد في حرية الاختيار.
إن عدم توقيع بعض الدول على العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية سببه نصوص شرعية لا تزال تشكل مشكلة إلى ساعتنا هذه.
فالدعوة للإسلام تبدأ بالكلمة الحسنة، والموعظة الطيبة، والصدقة أحيانا، (المؤلفة قلوبهم) وصولا الى التهديد بالقتل والحرمان من بعض الوظائف، (ما جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) إلى التضييق المعنوي والنفسي (ضيقوا عليهم الطرقات) و(لا يقتل مسلم بكافر) و(من بدل دينه فاقتلوه). هذه النصوص وغيرها لا تتناقض مع المادة 18 فحسب بل إن مبادىء الشريعة والدين الإسلامي ترفضها؛ وتلك النصوص وغيرها طمست النص الديني المتواتر وغدت هي الأصل . فالنص المتواتر يقول: (لا اكراه في الدين) (إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب)، (فالله يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) بل زاد النص على ذلك ومنح الإنسان حرية وإرادة ليكون مؤمنا بالقدر الذي يدفعه مع تلك الحرية والإرادة لكي يكفر: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). فالتعبير عن إرادة الإنسان هو أعلى درجات التحرر، وهذا يعني أعلى درجات الوجود.
الأفضل لنا أن نفهم أولئك الذي أنهكتهم الحروب وأتعبهم الجوع والفقر والجهل في بلدانهم ورغبوا بالتحول إلى ديانة تروي ظمأهم الروحي، وجوعهم المادي، وتحقق لهم وجودهم الحقيقي في هذه الحياة، بدل أن نحكم عليهم بالردة والقتل، طالما أنهم اختارو طريقهم بمحض حريتهم وإرادتهم.
على كل مجتمع يدعي ضمان الحرية للناس أن يضمن لهم وجودهم أيضا؛ وكل قيد على هذه الحرية يعتبر مصادرة لإرادة الإنسان وإلغاء لوجوده.
إن كثيرا من النصوص يجب النظر إليها كنصوص تاريخية يجب تأويلها بما يتناسب مع كل ما يحقق مصلحة الإنسان ويمده بأسباب السعادة.
لم يعد هناك اليوم أي معنى لحرمة زواج الكتابي من المسلمة رغم انعقاد الإجماع على ذلك.(يراجع كتب الفقه)
يقول النص القرآني: (وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم). فهل غريزة الطعام وشهوة البطون أولى من إشباع غريزة الجنس القائم على الحب الذي تكسر به حواجز الدين.
العجيب أن كثيرا من الفقهاء يبررون منع زواج المسلمة من المسيحي بدعوى خوف الفتنة في دينها، والخوف من تعرضها للإيذاء والإجبار لتغيير معتقدها، وهو أمر لا مسوغ له في دولة تحترم القانون ولو قليلا، بل لا مبرر له فكم من أسر تفككت وشرد أولادها والأبوان على مذهب ودين واحد.
نصل لنتيجة مفادها أن الدولة الحديثة والقوانين الحديثة والمتجددة التي تسعى دائما لما يحقق للإنسان حريته وكرامته تكفل له حق الاعتقاد بأي دين، وحق الانفكاك عن أي دين دون عقوبة دنيوية لازمة، يستوي في ذلك جميع المواطنين -حتى لتكاد تكون المواطنة الدين العام الذي يجمع الجميع مع بقاء الدين الخاص محفوظا مكرما مصانا- والمسلمون كغيرهم عليهم أن يقبلوا بخيار المواطنة ورهان الحرية، ويتخلوا عن رهان التحكم والهيمنة، ومن تأمل سياق كلام الله في سورة الكهف (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، انإ اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها) فرغم الحديث الثنائي عن الكفر والايمان؛ انتقل السياق لمعنى آخر يخالفه فتحدث عن الظالمين؛ وكأنه يريد أن يقول :
إن مشكلة البشرية ليست أن تكون مؤمنا أو كافرا، بل مشكلة البشرية أن تكون ظالما. فهل يخرج المسلمون من كهفهم؟
*منصور حسنو. كاتب ومدرس فلسفة سوري
المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير في صحيفة أبواب.