لا يكاد يمضي يوم إلا ونسمع عن اكتشافات جديدة في كافة مجالات العلوم، التكنولوجية والطبية والصناعية والزراعية والفلكية وغيرها، وبينما يتصدر الغرب المسؤولية عن تلك الاكتشافات؛ نتصدر نحن العرب والمسلمين بشكل عام المسؤولية عن الاستهلاك دون أي إنتاج يذكر، وتنشغل جامعاتنا بمناقشة رسائل الدكتوراه حول نواقض الوضوء ووجوب أو جواز نوم الأرملة جانب الحائط خلال فترة العدة، فيما يصّدر الدعاة أفواجًا من “المجاهدين” ينشرون العنف في العالم باسم الإسلام، في حين تنتشر مواقع الفتاوى لتحلل وتحرم باسم الله فتحول حياة المسلمين إلى أناس خارج العصر والتاريخ.
ويقف المرء في لحظة تفكير ليتساءل أين الخلل؟ وهل يعقل أن يكون دين الله الخاتم بهذا التعقيد وقد أتى رحمة للعالمين؟ وأين تلك الرحمة إذا كنا نرزح في عقدة الذنب لكثرة ما ارتكبنا من حرام سيودي بنا إلى جهنم وبئس المصير لا محالة؟
فإذا علمنا أن الله أرسل لنا كتابه لنقرأه لا لنزين به رفوف المكتبات ونتلوه في المآتم، وأن هذا الكتاب من حي إلى أحياء، علينا النظر إليه بعين العصر لا بعين 1400 سنة سابقة، وأن علينا فهمه وتدبره دون وسيط، والتدبر لا يكون إلا بالسؤال والاقتناع، دون ممنوع هنا، لوجدنا الله رؤوفًا رحيمًا {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحديد 9)، والجنة عرضها السموات والأرض {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران 133)، ورحمة الله وسعت كل شيء بينما عذابه محدود {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف 156)، وأن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا سيلقى خير الجزاء يوم القيامة، مهما كانت ملته {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62).
لكن الثقافة الإسلامية الموروثة رسّخت في أذهاننا دينًا مغايرًا تمامًا لدين التنزيل الحكيم، فحنطت ما أفتى به الشافعي وأبو حنيفة لعصرهم، وطالبت المسلمين باتباع ما وضع البخاري ومسلم من أحاديث في كل العصور والأزمان، حتى لو خالفت تلك الأحاديث ما جاء في كتاب الله، وقدمت النقل على العقل إن تعارضا،
فيقول أحد شيوخ العصر “ومن أعظم البدع التي حصلت في تاريخ الإسلام تقديم العقل على النقل، وادعاء أن العقل يخالف النقل في بعض الأحيان، وأنه إذا حصل خلاف بين دليل وبين العقل يقدم العقل، –لا يجوز لنا مطلقاً أن نحكم عقولنا في النصوص فنرد هذا ونقبل هذا” ورمت كل دعوات الكتاب للتفكر والتعقل، في تطبيق تام للآية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة 170)، والأنكى من ذلك هو ما حدث من تقول على الله في موضوع الحلال والحرام، حتى أصبح كل تصرف صغير أو كبير يخرج المرء من دائرة الحلال إلى الحرام، فتراكمت المحرمات حتى أصبحت لا حدود لها، قابلة للازدياد وفق فتاوى لا تعد ولا تحصى، وهنا الطامة الكبرى التي شوهت الإسلام وشوهت الرسالة المحمدية.
الحرام حكم شامل أبدي ثابت بالمنع الذي لا رخصة فيه، خص الله به نفسه حصرًا {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل 116) فلا يحق لأحد إضافة محرم أو حذف آخر، والقول مثلاً أن التدخين حرام يحتاج لرسول جديد بيده بينة من الله تعالى، تجعل من سيأتي بعد آلاف السنين يلتزم بحرمانية التدخين، فحتى الرسول الأعظم لم يمتلك حق التحريم والتحليل إلا في نطاق الرسالة التي جاء بها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم 1)، أي أن مقام النبوة لا يسمح له بوضع المحرمات، وهو (ص) شرع لعصره ضمن تنظيم الحلال لا أكثر ولا أقل، واعتبار تلك التشريعات ملزمة لنا ولغيرنا هو ما ألقى بنا خارج التاريخ.
والمحرمات قيود تكبل السلوك الإنساني، لكنها في التنزيل الحكيم معدودة، لا تتجاوز الأربعة عشر، ختمت مع محمد (ص)، ولا تتعارض في معظمها مع سلوكيات كل أهل الأرض، تتلخص في:
- الشرك بالله {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا —} (الأنعام 151)
- عقوق الوالدين { —وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا—} (الأنعام 151)
- قتل الأولاد من إملاق أو خشية إملاق {—- وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ—} (الأنعام 151)
- الاقتراب من الفواحش {—- وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ—} (الأنعام 151)
- قتل النفس {—- وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ—} (الأنعام 151)
- أكل مال اليتيم {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ—} (الأنعام 152)
- الغش بالكيل والميزان {—–َأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا–} (الأنعام 152)
- شهادة الزور {— وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى—} (الأنعام 152)
- نقض العهد {—وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ –} (الأنعام 152)
- أكل الميتة والدم ولخم الخنزير والاستقسام بالأزلام {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ — وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ —} (المائدة 3)
- الإثم والبغي بغير حق {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ —} (الأعراف 33)
- التقول على الله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ —— وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف 33)
- نكاح المحارم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ —} (النساء 23 – 24)
- الربا {— وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا —} (البقرة 275)
فإذا استثنينا محرمات الطعام نجد أن هذه المحرمات هي أخلاقيات كل الناس في شتى أنحاء العالم، مهما اختلفت معتقداتهم وانتماءاتهم.
وإضافة لهذه المحرمات، احتوت الرسالة المحمدية على أوامر ونواهٍ، ظرفية خاضعة للاجتهاد الإنساني لتحديد شروطها، فرجس الخمر مثلاً وهو السُكر نهانا الله تعالى عنه، لكن استخدام الخمر لأغراض الطب لا غبار عليه، والتجسس على الجيران ضمن المنهيات لكنه على الأعداء مقبول وفق شروط السلم والحرب.
وللأسف فإن ما حصل عبر الزمن هو تقول صريح على الله، حوّل كل أمور حياتنا اليومية إلى حقل الحرام، حتى أمور الذوق الشخصي في المأكل والملبس والحرير والفضة والوشم والموسيقى والفن، وكأن الله لا عمل له إلا التضييق على عباده، ليعذبهم في الآخرة، فتحولت الرسالة المحمدية من رسالة رحمة إلى رسالة قهر، وتحول المسلم إلى كائن غريب الأطوار عليك مراعاته وإلا قتلك.
فعودوا إلى كتاب الله أيها المسلمون لتروا الله يعدكم بالجنة، ولا تقنطوا من رحمته وهو القائل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر 53).