د. محمد شحرور | باحث ومفكر إسلامي.
تدور الحوارات والنقاشات بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم عن مدى عنصرية الإسلام أو تقبله للآخر، وتراهم منقسمين، لمدافع ينفي تهمة العنصرية جملة وتفصيلاً.
وينسب كل تطرف لفئة قليلة تشوه وجه الإسلام، وآخر يقر بالتميز عن غيره، وقد يشفق لذهاب صديقه المختلف إلى النار حين سيذهب هو إلى الجنة، وثالث يعادي ذاك المختلف، وقد يصل به العداء لدرجة القتل.
فإذا كان الإسلام المتعارف عليه يقوم على شهادتي “أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله”، فإن ثمانين بالمئة من أهل الأرض سيكون جزاؤهم النار لا محالة، وسيلقون ما عملوا هباءً منثورا، وسيكون الإشفاق عليهم في محله، بينما سنحظى نحن الذين ورثنا الشهادتين عن آبائنا تلقائيًا بالجنة، وسينال المجرمون منا عفو الرحمن، فنرى الحجاج وأمثاله من مستبدين في النعيم، والأم تيريزا وأمثالها في الجحيم، ولا حاجة إذًا إلى جنة عرضها السموات والأرض، بل تكفيها مساحة صغيرة لا تتجاوز مساحة سويسرا مثلاً.
لكن الإسلام في التنزيل الحكيم هو دين الإنسانية، وهو الدين القيّم بكونه يشمل كل من آمن بالله وعمل صالحًا {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف 110) والعمل الصالح هو كل ما يساهم في تقدم الإنسانية نحو الأفضل، وبهذا المعنى نفهم قوله تعالى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران 85)، فالله استخلفنا على هذه الأرض وتحدى بنا باقي الكائنات لا ليعذبنا، بل يريد لنا كل الخير {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة 30)، فمن عمل خيرًا سينال جزاءه ومن عمل شرًا سينال جزاءه، وإذ وضع الله لنا محرمات محدودة وترك للشرائع الإنسانية تقرير الأفضل وفق ما يناسبها في المكان والزمان، جعل من الإسلام مظلة يمكن أن تضم تحتها معظم أهل الأرض، توحدهم الإنسانية بغض النظر عن كيفية ممارستهم لشعائرهم كأفراد، فالعلاقة مع الله شأن خاص بكل إنسان، وبيد الله وحده محاسبته عليها في اليوم الآخر {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17) وهذه الآية مثال عن اعتراف التنزيل الحكيم بالتعددية، اعتراف رباني، فلا واحد إلا الله، وسنته في الخلق تقوم على الاختلاف، والرسول الأعظم وضع في يثرب قانونًا مدنيًا، نظم من خلاله الحلال، كأي برلمان في الدول المتحضرة، ولم يحرم أو يحلل، فالحرام مغلق بيد الله وحده، وأي تحريم هو تقوُّل على الله، لكن ما حدث في العصور التالية لعصر النبوة هو تحول القانون المدني الذي وضعه النبي إلى دين، وانتقال أقواله وأفعاله لتعادل آيات كتاب الله في الأهمية، وتتجاوزها أحيانًا، وازدهار صناعة الحديث لتناسب الحكام وهاماناتهم، فتخيلوا أن يصلنا عشرات الآلاف من الأحاديث عن الرسول، تتناول كل نواحي حياته، وتضفي عليه قدسية لم يدعيها عليه السلام، فالرسول (ص) كان معصومًا عصمة مكتسبة، في مجال بلاغ الرسالة فقط لا غير، لا عصمة تكوينية، ولم يكتف السادة المحدثون بإضفاء هذه العصمة عليه، بل أيدوه بمعجزات جعلت منه يشق القمر ويحيي الموتى، وما إلى ذلك، علمًا أن التنزيل الحكيم لم يذكر أبدًا ما يشير إلى هذا، مع أن من سبقه من الأنبياء أيدهم الله بمعجزات لها علاقة بثقافة أقوامهم وزمانهم وما برعوا به، لكنه تعالى ذكر كيف ضاق الرسول بسؤال قومه إتيانهم بمعجزة مادية وعجزه عن ذلك {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (هود 12)، ومن جهة أخرى أضافت الأحاديث على النبي ميزة علمه للغيب، مع أن الله تعالى قال عنه {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 188) وغيرها من الآيات التي تبين أن الغيب الذي جاء به هو غيب مجرد ذكر وحيًا بصيغة أنباء غيبية نطقها الرسول دون أن يطلع على ما فيها من إعجاز، لذا فإن القرآن هو المعجزة الوحيدة التي ميزته، إذ يتجلى تفسيره مع الزمن بتقدم العلوم والمعارف {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام 67)، والرسول أدى مهمته ببلاغ التنزيل بما فيه على أكمل وجه، دون أن يكون عالمًا بشرحه، ولم يدع ذلك، ومهمة التدبر في القرآن أوكلت للناس {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد 24) فالنص ثابت والسامع أو القارىء متغير، ودرجة الفهم والوعي متغيرة أيضًا.
وكون الرسالة المحمدية هي الصيغة النهائية للسنة الإلهية الأبدية، فقد عبر عنها في كتاب الله بأسلوب مجرد نظري، على اعتبار أن الرسول هو خاتم المرسلين وعصره بمثابة بداية مرحلة ما بعد الرسالات، حيث تم إعلان أهلية الإنسانية لذلك بإكمال الدين وإتمام النعمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة 3) وعلى ضوء سنة الله في الكون وهي التغير والتبدل، ولا ثابت إلا هو{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر 43)، وكما أن اجتهادات النبي شكلت التفاعل الأول للرسالة المجردة مع عالم الواقع، يمكن لتشريعات اليوم أن تتفاعل معها وفق مرجعية أخلاقية تتمثل في القيم الإنسانية، والولاء للإسلام لا يكون إلا ولاءً لهذه القيم أصلاً، دون شعارات رنانة، ودون تقوّل على الله يجعل من المسلم يعيش في تناقض بين تميزه عن الآخرين من جهة، وعقدة ذنب تجاه كل ما يقوم به في حياته اليومية نتيجة ضغط الحلال والحرام من جهة أخرى.
خلاصة القول ما قاله تعالى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 112) فدعوا الخلق للخالق، وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين.
الموقع الرسمي للدكتور محمد شحرور
مواد ذات صلة للكاتب.
د. محمد شحرور: صورتنا وصورتهم
د. محمد شحرور: المؤمن في بلاد اللجوء
د. محمد شحرور: الإسلام والإيمان