يحيى الأوس*
تثير رؤية الصحف والمجلات الألمانية والأجنبية المعروضة في أكشاك برلين ومكتباتها لدي شعوراً بالارتياح، فهي جزء لا يتجزأ من إحساسي بحرية الفكر والتعبير، وتحديداً شعوري بالحرية الإعلامية في هذا البلد. قد يكون مرد هذا الشعور المتّقد هو أنني أنحدر من بلد لا ترى في أكشاكه سوى صحف السلطة الهزيلة ومجلات التسلية والتابلويد.
في كل مرة أتوقف أمام المراكز الكبيرة التي تعرض المجلات، أتعرف على مطبوعات جديدة لم يسبق لي ان رأيتها قبلاً، صحف ومجلات محلية وأجنبية من بلدان مختلفة بلغات متعددة، مطبوعات سياسية، علمية، كاريكاتور، طب، أزياء، ثقافة، رياضة، صحف ذات توجهات ثورية يسارية وأخرى راديكالية محافظة، حتى المجلات الجنسية تجد لها مكاناً وسط هذه الفوضى الرائعة بعيداً من مقص الرقيب الذي لا يبق ولا يذر.
طوال ثلاثة سنوات في ألمانيا لم أسمع عن منع توزيع مطبوعة أو منعها من الدخول إلى ألمانيا أو سحبها من الأسواق، ولا أتمنى أن يحدث، لأن هذا من شأنه تعكير الصورة التي يحملها كل صحفي أو مثقف طريد وصل إلى هذه البلاد فاراً من جمهوريات القمع.
عندما وصلت إلى برلين كان تقصّي توجهات الصحف الألمانية الرئيسية أمراً أساسيا بالنسبة لي، ليس لكوني صحفياً وحسب، بل لأن التعرف إلى الخطاب الإعلامي للصحف الرئيسية، ونهجها السياسي والاجتماعي، يسهّل عملية فهم واستيعاب السياسة التي تُدار بها البلد، رغم صعوبة الأمر الناجمة عن عدم اتقاني للغة الألمانية، فقد تمكنت بمساعدة زملاء ألمان من تمييز توجهات الصحف الرئيسية. لم يكن التصنيف يتراوح بين صحافة اليسار واليمين والصحف المحافظة وحسب، بل تعداه إلى تصنيفات أخرى مثل المستقل والحزبي، الليبرالي والوسطي، الفكري والأكاديمي بالإضافة إلى اعتبارات أخرى عديدة.
أعرف أنه ليس من العدل المقارنة بين توجهات الصحف السائدة في ألمانيا والصحف في سوريا، نظرا للفوارق القائمة بين نظام يقدّس حرية التعبير وآخر يقوم على كمّ الأفواه، لكن التفاوت الشاسع يثير حفيظة الصحفيين دوماً، فجميع الصحف الرسمية والتي يطلق عليها “الخاصة” تتبع للنظام الحاكم في سوريا، ولا تختلف سوى في شدّة تبعيتها له، حتى الصحافة الحزبية التي يفترض أنها تنطق باسم ما يعرف بــ “أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية”، فهي في كثير من الأحيان تكون “ملكية أكثر من الملك”.
أن ترى صحفاً أمريكية أو فرنسية في أكشاك مدينة كونية كبرلين، فهذا يعني نظرياً انها وجدت هنا من أجل الأمريكيين أـو الفرنسيين الذين يقيمون ويعملون هنا، وهم كثر لا شك، لكن هذا ليس دقيقاً تماماً، ففي الواقع ستجد أن الكثير من الألمان يقومون بشراء هذه الصحف والمجلات لقراءتها بلغتها الأصلية. أحد معارفي الألمان يقرأ صحيفة اللوموند منذ عشر سنوات كما قال لي، فقد عمل لسنوات في فرنسا قبل أن يعود إلى ألمانيا، وهو يفضّل أن يستقي معلوماته من الصحف الفرنسية نفسها حتى اليوم. كما أنني أشاهد صحفاً أمريكية في منزل صديقتي الألمانية في كل مرة أقوم بزيارتها.
لكن الأمر قد يبدو مختلفاً قليلاً لدى رؤية الصحف التركية التي تحتل موقعاً بارزاً في أكشاك العرض، وأحياناً مكاناً خاصاً بها بالنظر لكثرتها وتنوعها، فمع التسليم أن اخبار تركيا تقع ضمن دائرة اهتمام المواطنين الألمان، بالنظر للعلاقة التاريخية بين البلدين، إلا أن المصدر الرئيس للأخبار عن تركيا ليست الصحف الناطقة بالتركية، وإنما الصحف الألمانية التي تقوم بتغطية اخبار تركيا، وعلى الأرجح فإن زبائن الصحف التركية هم الأتراك، وبصورة خاصة الأتراك الذين لا يتحدثون الألمانية، هؤلاء يجدون فيها نوعاً من المواساة كونهم لا يتقنون قراءة الصحف الألمانية.
فيما يتعلق بالصحف العربية، فأنا لم أر صحفاً عربية مشهورة في أكشاك برلين، مرة واحدة العام 2015 أصدرت صحيفتان ألمانيتان هما: “بيلد” و”برلينر تسايتونج” أربع صفحات باللغة العربية كملحق موجه للاجئين العرب تم توزيعه مع النسخ الورقية، في كسر لقانون الاعتزاز اللغوي الذي يحظر استخدام أية لغة أجنبية في المطبوعات الرسمية. القانون تم تجاهله أيضاً مؤخراً عند زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى برلين، عندما وضعت إحدى الصحف عنواناً كبيراً باللغة الكردية قالت فيه: “أردوغان لا أهلاً ولا سهلاً”، وبرأيي كانت هذه واحدة من أبرز تعابير الحرية الإعلامية في الصحافة الألمانية.
عودة إلى الصحف العربية، المؤكد أن عادة شراء الصحف في البلاد العربية عادة غير جماهيرية، ولا اعتقد أن هناك من يطلبها أصلاً هنا في برلين، لكن السنوات القادمة لا بد وأن تحمل بعضاً من الصحف العربية لتأخذ مكانها بين مثيلاتها من الصحف الأجنبية الأخرى، وما أخشاه أنها سوف تكون محاكاة لتجربة الصحافة التركية، بمعنى أنها ستكون لإرضاء حاجات القراء العرب فقط، طبعا هذا إذا ما سلمنا بأن الصحافة الورقية سوف تبقى على قيد الحياة أصلاً.
*صحفي وكاتب سوري مقيم في ألمانيا
اقرأ/ي أيضاً: