د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
بعد أن تعافت صديقتي من مرض الحنين الذي كاد يقتلها -أو على الأقل هذا ما ظنته- وبعدما شقّ الروتين طريقه إلى حياتها، قررت أن تعيد تشكيل عالمها الجديد حسب مقاييسها الجديدة، بدأت ترسم معالم حياة طبيعية، ومنطقياً فإن العمل من أهم معالم هذه الحياة. يجب أن تعمل أو أن توهم نفسها بفكرة العمل.
علماً أن صديقتي نادراً ما كانت تشعر بالفراغ، وأيامها أبعد ما تكون عن الهدوء، إذ شغلت وقتها وروحها بالكثير من الأعمال الخيرية التي من شأنها أن تعينها على تقبل واقع يصعب على أي إنسان أن يقبله.
بدأت بإرسال سيرتها الذاتية إلى الكثير من الجهات علّها تلاقي صدى إيجابياْ لها، مع يقينها القوي بعكس ذلك فلا أحد سيرغب بالعمل مع سيدةٍ في العقود الأخيرة من عمرها. ولكن كان يحلو لها أن تستمر في لعب هذا الدور الإيجابي جداً، بل كانت تتماهى أكثر وأكثر مع هذه الإيجابية لتتخيل نفسها وقد أصبحت امرأةً موظفة عليها مسؤوليات.
سعدت جداْ بهذا الدور وتلبسته بشكل جدّي، وإمعاناً في تشكيل معالمها الجديدة قررت تغيير أسلوبها التقليدي في الثياب، وهكذا وبدون إنذار مسبق، تخلت عن الأزياء الضيقة التي كانت تحدد قامتها وشكلها، المتناسقة الطول والعرض والتي إن أردنا وصفها نقول إنها بالغة الجدية محدودة وتقليدية. واختارت أسلوباً يدل على الانعتاق من أي قيد والانسلاخ عن أي شيء تقليدي من شأنه أن يحد من انطلاقتها.
ولكن كان هروبها نحو هذا العالم الجديد يتعبها أحياناً، فتضطر من وقت لآخر إلى التوقف عن الجري والهذيان لتأخذ نفساً طويلاً وتقف مع نفسها في جولة جديدة، ربما تكون وقفة أطول قليلاً لتجديد أوراقها النفسية بالتزامن مع تجديد أوراقها الثبوتية الجديدة.
في وقفات كهذه كان يحلو لها أن تستدعي خيباتها كاملةً، وكانت بعضها لا تزال دافئة، فهي ما تزال تعيشها بشكلٍ أو بآخر. لحظات قد تطول أو تقل مدتها حسب قدرتها على الاحتمال، وفي كل مرة كانت المدة تقلّ تدريجياً، فقد نفذت قوة صديقتي وقدرتها على الصمت. كان بإمكانها أن تصرخ عالياً ليملأ صراخها الكون. هو الصراخ الذي بدأ يأخذ مكانه بدلاً من الدموع التي كانت كثيراً ما تذرفها، ليس حزناً بل غضباً على نفسها أولاً ثم على العالم الخارجي.
كانت كلما بلغت هذا الحد من التفكير، تفضل عدم متابعة الطريق والهروب إلى درب ثانية. الهروب.. هذا ما كانت تقوم به صديقتي طيلة حياتها. في وقفة سابقة عللت تصرفاتها بعشوائية قراراتها. اليوم تضيف تحليلاً آخر: الهروب من كل شيء قاس، من كل حزن ومن كل شعور بالضيق.
“الهروب جُبنْ”. تبتسم صديقتي لنفسها وتقول: “إذاً أنا جبانة”.
لحظاتٌ ويتغير إدراكها لذاتها: “لا لست جبانة”، تهمس.. أن تتقبل وضعك السيئ وتتعايش معه هو منتهى القوة، أن تستطيع الاستمرار بالعيش رغم ارتفاع منسوب الحزن والغضب في داخلك هو منتهى الإيجابية. أن تتحلى بصمت مطلق بينما في داخلك كل هذا الصراخ هو القوة، أن تعيش حالة من السكينة، بينما تشعر أنك إن فتحت صمام قلبك سيحدث الانفجار العظيم الذي سيهدمك ويهدم كل ما حولك هو القوة بحد ذاتها، أن تتناسى النقطة السوداء في قلبك مع يقينك أنها لن تتلاشى مع الزمن هو قمة الشجاعة.
عندما توصلت صديقتي إلى هذه المرحلة من التفكير، كانت الغيوم السوداء قد انقشعت وتوقف هطول الأمطار. وفجأة تراءى لها قوس قزح في السماء. ابتسمت وابتلعت غصةً بحجم الكون وقالت: لا بأس سأتابع طقوس الهرب والهذيان حتى أجد لنفسي مكاناً جميلاً.
اقرأ/ي أيضاً:
يوميات مهاجرة 20: لبنان الذي لم يعد أخضر.. ذكرياتٌ وأغاني
يوميات مهاجرة 19: لا شيء سيعود كما كان…