د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
تنهدت صديقتي وقالت لنفسها: “أظن أن هذه الكورونا اللعينة قد بدأت بالانحسار.. لنعش من جديد”. وكأن الأشهر الثلاث التي قضتها في الحجر الصحي كانت وقتاً مستقطعاً من الحياة. تلبست صديقتي حالةٌ لطيفة من الشفافية وانعدام الوزن تحررت فيها من الواقع وتأملت كثيراً في الحياة والموت.
الموت الذي عاد من جديد ليفرض هيبته عليها ليس فقط خوفاً من فقد الأحبة، وإنما للعجز عن وداعهم في رحلتهم الأخيرة. استرجعت شهوراً طويلةً من حياتها السابقة في بلدها حيث عاشت في نفس الدوامة، مع منع النظام لأي نوع من أنواع التجمعات، خوفاً من أن تتحول الجنازة مهما كانت قليلة العدد إلى مظاهرة غضبٍ للشارع السوري. ولذلك فقد قُدر لمن مات حينها مهما كانت الأسباب، أن يرحل إلى الآخرة وحيداً وحتى دون إشارة تدل على مكان دفنه.
تعترف صديقتي بأنها رغم هذا الخوف قد عاشت تجربة حجرٍ جميلة، حاولت أن تعطي فيها قيمةً لأيامها، وأن تحتفل بأبسط الأشياء، عاشت إيقاعاً جديداً يتناسب طرداً مع حرية المكان الذي تعيش فيه، شعرت أنه يحق للإنسان في هذه الظروف غير العادية القيام بأشياء قد لا يمارسها في الأيام العادية، مثل الإفراط في كل شيء.. الأكل، الضحك، أو حتى قطف أغصان زهرة الزيزفون من أشجار حديقة الجيران.
رأت الحب والتعاطف يعم الكل، فنانون يعزفون موسيقاهم من شرفات منازلهم للترويح عن الآخرين، متاحف فتحت أبوابها الافتراضية مجاناً للجميع، سيداتٌ تهافتن لخياطة الكمامات وتوزيعها على سكان الحي، شبانٌ تبرعوا لخدمة المسنين والضعفاء.. انتشر الحب على الأرض.
عرفت صديقتي بلا شك أن كل شيء سينتهي وستعود الحياة إلى ما كانت عليه، ستعود السيارات لتملأ شوارع باريس، وتفتح المقاهي والمطاعم أبوابها وسينتشر الناس في الحدائق والغابات مهملين حبهم الطارئ للآخرين لأنه بزوال المحنة يزول التعاطف.. هي سنة الكون.
وفعلاً، اعتقد البشر أنهم هزموا الكورونا وادّعت الحياة العودة لطبيعتها، ولكن عبث.. فلا شيء عاد كالسابق وحتماً لن يعود. شوارع باريس امتلأت بالفرنسيين لكنها ما زالت تفتقر للحياة. أصحاب الحظ من أصحاب المقاهي الذين صمدوا في وجه الأزمة، فتحوا أبوابها من جديد وتمددوا على مساحة الرصيف كاملاً لضرورة التباعد الاجتماعي، ففقدت المقاهي حميميتها وسحرها واقتصرت على طاولات متفرقة تفصل بينها ألواح بلاستيكية أو نباتات خضراء عالية. أما فنادق العاصمة فبقيت مغلقة. واكتفى محبو برج إيفل بالطابق الثاني فقط حيث يصعدونه مشياً على الأقدام. قوارب السياحة مازالت مهجورة في مراكزها، ومعظم المخازن التجارية بقيت مغلقة إثر الأزمة الاقتصادية الخانقة. ومن استطاع فتح أبوابه فقد بدأ بتنزيلات هائلة في محاولة بائسة لشد الزبائن.
كلا لن يعود أي شيء كما كان.. حتى الأشخاص تغيروا وتغيرت علاقاتهم الاجتماعية، أصبح التباعد سيد المواقف وعاود الناس الاهتمام بأنفسهم فقط. وما عاد باستطاعة صديقتي الحنين لأيام سابقة هانئة، إذ تشغلها الآن هموم أخرى في بلدها، فمن باستطاعته هناك شراء الدواء والمواد الغذائية؟ ومن سيتمكن من التغلب على المرض والقهر والجوع؟
تتقاطع الحيوات والأزمنة والأمكنة في أعماق صديقتي، تحاول عبثاً إغماض عينيها عما يعيشه أهلها هناك، تحاول الإدعاء أنه مازال للسعادة مكان رغم كل ما يحدث وقد يصبح بإمكانها يوماً ما أن ترقص فرحاً بالخلاص؟
وتدعو الجميع: “من الآن وحتى إشعار آخر، عبروا لأحبائكم عن مشاعركم، اقلقوا عليهم ولو عن بعد، اهتموا لمصائرهم.. ليس فقط لأنه لم يعد هناك كثيرٌ من الوقت، وإنما وبكل بساطة لأجل الصدق مع الذات ومع الآخرين، للحب والتفاني في خدمة من نحب.. حتى لو لم يعد هناك من يشتري الزهور. حافظوا على ذكريات زمنكم الجميل فقد يأتي يومٌ للفرح، وحتى ذلك اليوم أقول لكم.. كونوا بخير”.
اقرأ/ي أيضاً:
زاوية يوميات مهاجرة 18: جواز السفر الأحمر…
زاوية يوميات مهاجرة 17: في باريس التي لم تعد باريس.. هكذا تسلل الحب
زاوية يوميات مهاجرة 16. لعنة أم نعمة؟