د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
حين تكون مصاباً بداء الحنين، فهو يهاجمك على شكل أغنية تسمعها، أو ورقة شجر صفراء تتهاوى أمامك أو حتى عند مرورك بشارع ما يبعث في نفسك من جديد صور حياة قديمة.
أنا لست مصابة بهذا الداء، وسأحاول ألا أقع تحت وطأته، فهو في زمن الكورونا ترفٌ لا قدرة لنا عليه. أو على الأقل سيأخذ منحى آخر عن زمن ما قبل الكورونا، وشكلاً وأعراضاً مختلفة. أهم ما يميزها أن تزداد حاسة الشم لديك، فأنت تشم دائماً رائحة منزلك القديم، بل إنك حتى ترجع سنوات إلى الوراء لتشم رائحة منزل أهلك. هناك من يقول أن هذه الرائحة لا تغادر أنفك ولا روحك مهما حييت.
اقرأ/ي أيضاً: يوميات مهاجرة 19: لا شيء سيعود كما كان…
أنا مثلاً ما زالت تسكنني رائحة كولونيا الـ (Bien etre) وتحديداً الزرقاء التي كانت تتواجد دائماً في غرفة والدتي. كولونيا سحرية ذات متعددة الاستعمالات من التعطر والتطيب إلى الطبابة. فقد كانت بضع قطرات منها تضعها والدتي أمام أنف من يمرض، يخاف من شيء ما، أو حتى من يفقد وعيه لأي سبب من الأسباب، كافيةً لتشعرك بالقوة والنشاط وكأنها إكسير الحياة.
أما في زمن ما بعد الكورونا فسيفقد الحنين حاسة الشم خاصته، حاله حال الكثير من الأشياء، الأيام، وحتى الأشخاص التي ستفقد الكثير من حواسها، متعتها، ومعنى حياتها. كحال شهر الأعياد الذي عبرنا هو الآخر بلا طعمٍ ولا لونٍ ولا رائحة كأنه أصيب هو أيضاً بكوفيد 19.
باريس كغيرها من مدن العالم عاشت الانتقال للعام الجديد بلا فرح، شوارعها التي اكتست بزينة خجولة فقدت بهجتها مع أهاليها الذين يمشون وقد أخفت الكمامات كل تعابير وجوههم سواء أكانت سعيدة أم حزينة. وانتشرت صور لشجرة عيد الميلاد مزينةً بأنواع الكمامات ذات الألوان والموديلات المختلفة وزجاجات التعقيم المتنوعة.
نجحت الكورونا –وبجدارة- في تغيير معالم عاصمة النور، اختفت مقاهيها التي كانت تنتشر على أرصفتها مضيفة المزيد من السحر لهذه المدينة. وليس من الغريب أن تكون إحدى أمنيات العام الجديد أن تستطيع الجلوس في مقهى في الحي اللاتيني القديم لشرب فنجان من القهوة أو كأس من النبيذ الفرنسي. ناهيك عن المطاعم التي اضطرت لإقفال أبوابها لتزيد من غرابة الوضع الذي نعيشه وحتى من تساؤلاتنا هل سنعود لحياة طبيعية من جديد؟ هل سيلتقي المحبون والعشاق في مطاعم باريس الرومانسية؟
اقرأ/ي أيضاً: زاوية يوميات مهاجرة 17: في باريس التي لم تعد باريس.. هكذا تسلل الحب
بعض فنادق العاصمة -وبالرغم من إغلاقها- أصرّت على ارتداء حلة العيد في محاولةٍ للتمويه عن كل مشاعر الحزن والقلق وإضفاء جوٍ جديدٍ من الحلم والسعادة. بينما قدمت المحلات التجارية التي فتحت أبوابها لمن يريد شراء هدايا الأعياد، بتنزيلات هائلة، ومع ذلك تكفيك نظرة واحدة لتجد أن عدد الباعة فيها أكثر من عدد الزبائن.
حتى برامج التلفزيون الفرنسي طالها التغيير الجذري، فأغلب برامجها مناقشات حول الكورونا، أعداد الإصابات والوفيات، أعراضها التي ما زلنا نكتشف الجديد والمزيد منها، طرق الوقاية والتصدي لها، وأخيراً اللقاح وأنواعه.
لم نعانق بعضنا في نهاية العام واكتفينا بإرسال قبلاتنا لأحبائنا من بعيد وجل ما تمنيناه هو الصحة ثم الصحة ثم الصحة. لم تضم الجدة أحفادها إلى قلبها واكتفت بنظرة تضع فيها كل حبها وشوقها لهم، ولم يقبل الشاب والده المسن بل أهداه دعاءه بدوام الصحة والعافية.
لكنني رغم كل المنغصات، حاولت أن أتمتع ببريق هذا الشهر، بأعياده وزينته، ببرده وضبابه، وحنينه، وسأكف الآن عن التذكر، سأعيش لحظة الحاضر كما هي، سأغلف حبي وأشواقي في هدايا جميلة الشكل وسأبعثها لأحبابي من بعيد، سأضفي على نظرة عيني الكثير من السعادة والفرح وكأنني أعوض بذلك عن اختفاء ابتسامتي وراء الكمامة، سأحاول نشر السعادة من حولي وسأقول للجميع: كونوا بصحة جيدة… كونوا سعداء.. ما زال هناك غداً، سنخلع الكمامة وتعود ضحكتنا، سيعود الوطن وستعود الحياة.