غيثاء الشعار. كاتبة سوريّة، تدرس (السياسات العامة) في برلين
(الميتال السوري حرب) هو عنوان فيلم وثائقي أنجزه بمعدات ومواد بسيطة جداً، موسيقيو ميتال سوريون، كانت الظروف الراهنة أكبر الحوافز لصناعته، على حد زعم أحد المشاركين فيه، بالإضافة الى رغبتهم بتسليط الضوء على الحرب ضدهم كأشخاص، وضد النوع الموسيقي الذي يقدمونه.
فهم كانوا وما زالوا محاربين أمنياً واجتماعياً، وتتم مراقبتهم وتشويه سمعتهم واعتقالهم من وقت لآخر، لا لسببٍ إلا لأن الإنسان عدوُّ ما يجهل، ولأن المجتمع لم يستطع تقبل هذه التجربة لأنها لا تشبه الموسيقا التقليدية التي اعتادها، فخروجها عن المألوف شكل شعوراً بالخطر، ألزم بالضرورة محاربتها.
ظهرت موسيقا الميتال في بريطانيا أواخر ستينيات القرن الماضي كتطور عن موسيقا الهارد روك، لكن مقاماتها الموسيقية مختلفة عنه، حيث تستخدم ما يسمى بالمقامات الكنسية، ولها ما يقارب 42 نوع، تندرج جميعها تحت اسم الميتال، منها (هيفي، تراش، سبيد..) تعتمد على الدرامز والغيتار الباص والالكتروني، إضافةً إلى الصوت البشري ويتم إدخال الكيبورد أحياناً، كما أنها صارت تدرس كنوع موسيقي في بعض الأكاديميات، كهولندا وأميركا.
ورغم أنها أصبحت موضة قديمة في العالم الغربي، حيث أن التكنو والهيب هوب والإيندي بوب، هي الموجات الرائجة الان هناك، إلا أنها مازالت في العالم العربي تخضع للتكهنات، والإحساس بالخطر والمؤامرة، ولا تكف هذه القضية من الظهور إلى العلن بين الحين والأخر، أثناء الترويج أو الترخيص للحفلات، تحت مسميات مختلفة كعبادة الشيطان، الهلوسة أو تعاطي المخدرات، ورغم أنها مجرد موسيقا، ليست ديناً أو عقيدة أو اتجاه سياسي، لكن كأي ظاهرة خارجة عن المألوف، يكفي ربطها بالكفر والصهيونية لتتم مقاطعتها والتشهير بمن يعمل بها.
بدأت تجربة الميتال في سوريا أواخر الثمانينيات، ولاقت جمهوراً واسعاً خاصة بين فئة الشباب، لكن غرابة هذه اللون الموسيقي وشكل وأزياء الموسيقيين وشعرهم الطويل ورقصهم وصراخهم على المسرح، شكل صدمةً للمجتمع والفروع الأمنية.
كان مثيراً للسخرية ما يقوم به الأمن من إرسال عناصر مكشوفين ببدلاتهم الرسمية السوداء إلى الحفلات بحجة حضورها، فيندسون بين الجمهور ويتظاهرون بالاندماج مع الموسيقا، ويقومون بتصوير الموسيقيين والحاضرين بهواتفهم المحمولة، ثم اعتقال من يتكمنون منه بعد الحفلات. ولم تكلف نفسها هذه المنظومة الأمنية يوماً بمحاولة البحث عما يقدمه هؤلاء الشباب وسؤال مختصين، بدلاً من ارهاق نفسها بملاحقتهم والتضييق عليهم. وتساندهم وسائل إعلام رسمية، مهمتها الترويج غير الموضوعي لمعلومات دون التثبت من صحتها، مما زاد اللغط حول هذه الفرق، فكم مرة سمعنا وقرأنا مقالات في الصحف عن اعتقال شبّان بتهم غير منطقية، بل وسخيفة، كعبادة الشيطان، أو ذبح القطط وشرب دمائها، ومنذ متى كان ذبح القطط جريمة يعاقب عليها القانون السوري؟ في بلد ليس للإنسان فيه حق، فما بالك الحيوان! على الرغم من أن هذه التهمة غير صحيحة، ولا يمكن لإنسان سوي تصديقها.
يؤخذ على الميتال سوداوية المواضيع، التي تتحدث عن الجحيم والموت والحرب والحزن، وحدث أحياناً أن كان للجمهور رد فعل، كما في النروج على سبيل المثال، حيث تمت مهاجمة كنيسة وإحراقها بعد إحدى الحفلات، وهناك من عازفي الميتال من لهم توجهات دينية وسياسية قد لا تروق للبعض، لكن أعتقد أن هذه المآخذ تنطبق على جميع الأنواع الموسيقية والفنية والحياتية الأخرى وليست محصورة بالميتال، كما أن هذه الأغاني مأخوذة من الحياة نفسها، فلايُعقل أن تتحدث جميع الأغاني عن الحب والهجر والسلام.
يبدو أن العيش في ظل الديكتاتوريات السياسية والدينية أحكم إغلاق العقل ضد أي جديد، وصارت العادات والتقاليد والفتاوى أساس الحكم، فكل جديدٍ نعجز عن فهمه يخلق حالة مخيفة من عدم الاستقرار ويستدعي معاداته بالضرورة، وبدلاً من اعتبار الميتال مسألة ذوق فني، تعجبنا هذه الموسيقا فنستمع إليها أو لا تعجبنا فنتجاهلها، زادت حالة الغموض والحيرة حولها، كما أن استخدام اللغة الإنكليزية في الغناء، وجهل الكثيرين بها لعب دوراً في تضخيم المشكلة.
هناك كبت اجتماعي وجنسي واكتئاب وإحباط لدى الشباب، ولابد من التعبير عنه ولو بطريقة خارجة عن المألوف يحركهم السخط والغضب، وهذا رد فعل سليم ومتوقع، ويجب أن يُنظر إليهم بعين الحب والاحتواء، فليس صحيحاً أن المؤامرة تغلف كل الأشياء التي لا نفهمها، ولطالما تسرع الناس في أخذ مواقف سلبية من أشياء واختراعات، ومع تطور الحياة اكتشفوا ان أحكامهم كانت مخطئة، وهذا يتكرر مع الفن والموضة والكثير من الاكتشافات العلمية أيضاً، سيما أن الفن بكل أشكاله متمرد على العبودية والسيطرة والقواعد الاجتماعية، وجوهره هو الحرية. ومهما لحق هذه الموسيقا من شبهات، ستبقى شكلا تعبيريا تخاف منه السلطات هشة البناء، قوية الذراع، التي يرعبها كل مختلف.
اقرأ أيضاً للكاتبة:
اللغة الجديدة على وسائل التواصل: عنف، شتائم، إقصاء… والسبب هو كلّ شيء وأي شيء
اقرأ أيضاً: