أمل فارس.
تمتلك الغالبيّة تعريفًا مشابهًا له، فيشار من خلاله إلى المكان الذي ولدنا فيه أو الوطن الذي هجرناه أو القضيّة التي نتبنّاها أو حتى الشّخص الذي نحب، ولكنّنا وفي لحظاتٍ حاسمةٍ من حياتنا سنجد أنّه يتجلّى بمفهومٍ مغايرٍ تمامًا للمعهود، يتبع لخصوصيّة التّجربة بل ربما يخالف طبيعتنا ككائناتٍ محكومةٍ بالانتماء ومفطورةٍ على التّعلق بما حولها، من أجل الاستمرار.
كان مشهد أبي وهم يخرجونه من المنزل محمولاً على نقالةٍ طبيةٍ لإجراء عمليةٍ مستعجلة من أكثر المشاهد المؤلمة بالنّسبة لي، وكأنّ شيئًا ما انهار في داخلي دفعةً واحدة، وتملّكني شعورٌ بانعدام الأمان، لكنّي دونما انتباهٍ تجاوزت الأمر وتلهّيت بأشيائي الخاصّة، فاعتنيتُ بقطيّ البنيّ الجميل ودلّلته كما لو كان طفلاً لي، وفي صيف إحدى الأيام وبينما كنت أحضّر لأوّل عيد ميلادٍ له، مات، حزنتُ لذلك ورفضت فكرة موته لكنّني نسيتُ أمره سريعًا ووجّهتُ انتباهي في ساعات الفراغ التي لا تنتهي لأعتني بكلّ ما أجده أمامي في بيتنا الأشبه ببستانٍ كبيرٍ حتى أنّني كنت أزيل صمغ الأشجار عن اللّحاء لاعتقادي بأنّها علامةٌ على مرضٍ أصابها وعليّ انقاذها كي لا تموت كما القط.
كلّ من حولي دعونني بصفةٍ لم أقدر على اتّخاذ قرارٍ منها، إن كانت جيدةً أم سيئة، كنتُ أبتسم فقط، في ذلك الحين كانت أحكامي معدومةً ولم أكن على درايةٍ بكيفيّة إزالة الألقاب في العاشرة، إن هي تموت لوحدها أم تُقتلع كصمغ الشجر؟ ومع مرور الوقت لم تعد تصرفاتي بتلك البراءة التي لقبوني بها، وصرت على درجةٍ من القسوة مكّنتني من الشّجار مع أختي الكبرى لرفضي مقابلة خطيبها السّمج، ومن الصّراخ في وجه أمّي مراتٍ عدّة بدون سبب لكنّ دموعها وفي لحظةٍ حاسمةٍ غلبتني بالضّربة القاضية.
تقرّر موعد سفري ورافقني كلّ من أعرفهم إلى أن تلاشيتُ في أروقة المطار وعادوا هم إلى منازلهم، بعد أن تركوا لي دموعهم على كتفي، وعند وصولي إلى حيث ينتظرني زوجي في بلادٍ بعيدةٍ وحارّة، كان عليّ خلع كلّ ما كنتُه سابقًا، وخوض تجربةٍ جديدةٍ في مكانٍ مختلفٍ تمامًا، والتّصنع بفهمي للغة الإشارات والعيون وعدم اكتراثي للإغوانا الضّخمة التي تراقبني من ثقبٍ في السّقف، وفوجئتُ مجددًا بأنّ ابتسامتي لا تفارقني، فبغضّ النّظر عن شعوري وعمّا كان يحدث لي في ذلك المكان البعيد، كنتُ أبتسم، وظهرت لي عادةٌ جديدة في اقتناء دفاتر وأقلام، ورحت أدوّن فيها كلّ ما يخالجني من نوبات الحنين لبيتي وأهلي وشجيرات التّين وبرد الشّتاء وقهوّة العيد وصوت جدّتي ومشاجرات الجيران، وأرسم فيها ما يحلو لي من العيون الدامعة ثم أخبئ كلّ ذلك في الأدراج، لأعود واستبدلتها بأخرى تتناسب وقتي ثمّ أهملتُها تمامًا مبقيةً بشكلٍ جديّ على ابتسامتي، حتى مساء يومٍ عاديّ كغيره من الأيام، حين أشار إليّ أحد الأصدقاء بقراءة روايةٍ تقول إحدى “قواعدها الأربعون” إنّه: “لا يوجد فرقٌ كبيرٌ بين الشّرق والغرب والجنوب والشّمال، فمهما كانت وجهتك، يجب أن تجعل الرّحلة التي تقوم بها رحلة في داخلك، فإذا سافرتَ في داخلك فسيكون بوسعك اجتياز العالم الشّاسع وما وراءه”. كانت من بين تسع وثلاثين أخرى بمثابة حبلٍ قُذف به إلى بئرٍ عميقةٍ كنتُ في قاعها تمامًا، في تلك اللّحظة أمسكتُ الكتاب بكلتا يديّ، وبكيتُ لساعاتٍ حتى ابّتلت ثيابي وانتفخت عينايّ، ثم ولأوّل مرّةٍ في حياتي ابتسمتُ بكامل الوّعي، بينما بدأت بالولوج تدريجيًّا إلى المكان القريب جدًا الذي حرّرني من كلّ ما أثقلني من حنينٍ إلى الأماكن والبلاد والأشخاص، واختفت فيه كلّ الانتماءات، ولم يتبق سواه كحقيقةٍ كلّفتني الكثير من الشّجاعة، لكنني وجدت من خلالها معناه الخاص بي.
Inside is home.