دردشة مع المستشرقة والمترجمة الألمانية لاريسا بندر
حاورتها روزا ياسين حسن
من الصعب الإحاطة بتجربة عمرها 40 عاماً لمستشرقة ومترجمة معروفة كـلاريسا بندر ، لكن وعلى هامش نيلها وسام الاستحقاق الألماني باعتبارها أحد الجسور الثقافية المهمة بين ألمانيا والعالم العربي كان هذا اللقاء، الذي حاولنا فيه أن نغوص في تجربتها الطويلة مع الثقافة العربية واللغة والترجمة.
– تدافعين كمستشرقة عن مصطلح “الاستشراق” الذي اتّخذ معانٍ سلبية عربياً؟
لا أنكر أن للاستشراق تاريخاً سيئاً في المنطقة العربية. هذا كان في الماضي لكن اليوم ثمة الكثير من المستشرقين الجدد غيّروا أساليب تعاملهم مع العالم العربي ونظرتهم له. فمع دخول عصر الإنترنيت وتبادل المعلومات وازدياد الاختلاط بين العالمين تغيّرت النظرة القديمة كثيراً، كما أن توالي موجات الهجرات التركية والعربية والإيرانية، جعل أجيال المهاجرين الجديدة تدرس الاستشراق أيضاً في ألمانيا، ليدخلوا نسغاً جديداً إلى علوم الاستشراق مما غيّر من شكله. للاستشراق اليوم وجه جديد لا يشبه وجهه القديم السلبي.
– ما الذي جعل فتاة ألمانية مثلك تصبح مستشرقة ومترجمة وتستمر طيلة أربعين عاماً بذات الحماس؟
السبب بسيط جداً، لكن الأشياء البسيطة تتطوّر غالباً لتغدو مهمة، بدأ كل ذلك في زيارة مع أهلي للمغرب. سحرني ذاك العالم الغريب بتفاصيله ولغته وأنا لم أكن قد بلغت الرابعة عشر بعد. ورغم أني كنت أفكر بدراسة الطب إلا أن دراسة الاستشراق سحرتني، خصوصاً حينما بدأ أخي الكبير يدرسه في السبعينيات. في البدايات كانت جامعة كولن تدرّس الآداب العربية الكلاسيكية، ولم أشعر بأن الأمر يهمّني، فانتقلت إلى برلين وكان البروفسور “فريتس شتيبات” معروفاً بميله للأدب المعاصر. وقتها بدأت بقراءة “نجيب محفوظ” و”ميخائيل نعيمة”، وكانت البدايات صعبة! ووقتها كانت بدايات توجّهي إلى سوريا. فسكنت في بدايات الثمانينات مع صديقة لي في دمشق. ومن وقتها عشقت سوريا وعشقت اللغة العربية أكثر، وأحببت السوريين الذين استقبلونا نحن الطلاب الأجانب بقلوب مفتوحة.
– هذا يعني أنك كنت في فترة حرجة تخلّلتها مجزرة حماة؟
زرت حماة بعد شهرين من المجزرة، ورأيت آثارها. لكن وقتها لم نكن نلمس كأجانب حقيقة الأشياء في عمقها، وما يحدث في البلد في ظل تعتيم إعلامي. عرفنا أنه بلد ديكتاتوري وثمة خطر ما لكن التفاصيل كانت مغيّبة. ماذا يعني: سوريا الأسد! عرفتها فيما بعد حين اطّلعت على تفاصيل ألمانيا الشرقية، وكانت جدّ متشابهة. لكني اعتدت المجتمع الشرقي وقتها وصرت أشعر إلى حد ما بغربة في مجتمعي الغربي. هذا ما جعلني أقتنع بأني امرأة بثقافتين، بمعنى أن لدي انتمائين شرقي وغربي. أنا أحاول أن أكون جسرا بين عالمين مختلفين! علينا أن ننسى ما يقوله اليمين المتطرف من تفاهات، التعدد الثقافي وتعدّد الانتماءات غنى لنا ولكل المجتمعات.
أحاول أن أكون جسراً بين عالمين مختلفين
– في أوائل القرن العشرين بدأ العداء يتصاعد ضد الإسلام والثقافة العربية بالعموم، كيف قرأت الأمر؟ وهل أثر على عملك؟
طريقة تناول الإعلام الغربي للإسلام المليئة بالأحكام المسبقة أثّرت عليّ حقاً! لم تكن آراء سببها الجهل، بل أحكاماً مسبقة قائمةً على عدم فهم ومعرفة. رغم أن لدينا بالعموم إعلاماً حراً ومتنوعاً في ألمانيا، لكن هناك اتجاه عام يعاني من الإسلاموفوبيا. حاولت أن أقوم بشيء مضاد، فبالإضافة إلى عملي المستمر كمترجمة، أسسّنا في كولن كمجموعة مثقفين من العرب والألمان في 1992 جمعية: “الحوار بين الشرق والغرب”، ونظّمنا الكثير من اللقاءات مع مثقفين وفنانين وسياسيين من العالم العربي.
– بدأت رحلة الترجمة في التسعينيات، ومازال القارئ يلاحظ بأنك تنتقين نوعاً معيناً من الآداب لتترجميها؟
أول كتاب ترجمته كان “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، ونشرته دار لينوس 1995، سحرني الكتاب كونه يتحدّث عن موضوع أساسي أهتم به إلى اليوم وهو الاضهاد والقمع والسجون. في رأيي على الألمان أن يضطلعوا جيدا على معاناة الناس في الشرق الأوسط. بعد ذلك ترجمت ثلاثة أجزاء من “مدن الملح” مع صديقتي “ماجدة بركات”. الكتاب الذي يعجبني بالعموم يحمل موقفاً تقدمياً وإنسانياً واضحاً. ربما كانت كلمة “رسالة” كبيرة، لكني أشعر بأني أحمل ما يشبه “رسالة”، تجعلني أصرّ أن أنقل للغرب صورة مغايرة عن العالم العربي غير الصورة المكرّسة لديه. هناك الكثير مما يقال عن العالم العربي صحيح: اضطهاد المرأة والمد الإسلامي، ولكني ضد التعميم وضد النظر إليه ككتلة واحدة مصمتة.
– وكيف كان رد فعل المشهد الثقافي الألماني على ما ترجمت؟ وهل تغيّر شيء بعد الربيع العربي؟
المترجمون الألمان من العربية قلائل بالمقارنة مع المترجمين من الإنكليزية والفرنسية، عانينا بالتأكيد. دور النشر لم تكن تتحمّس كثيراً للأدب العربي. بعد الثورات العربية تغيّر الأمر ولكن ببطء، ففي الأعوام 2015- 2016 لم يخرج الكثير من الروايات العربية، أما السنة 2018 فستخرج بين 6 و8 كتب عربية جديدة. صار هناك اهتمام أكثر بالأدب العربي، وازداد دعم الكتاب الشباب من القادمين الجدد إلى ألمانيا. في البداية كان ثمة محاولات لتأطير هذا الأدب في مواضيع معينة كالهرب واللجوء، ولكني أرى أن الأمر يتغيّر باطّراد.
الثقافة العربية صارت جزءاً من الحياة الألمانية
– لماذا؟ وهل تجدين ترجمة نصوص متفاوتة في السوية الإبداعية إيجابياً؟!
الثقافة العربية صارت جزءاً من الحياة الألمانية، ازداد فضول الألمان تجاه تجارب الكتاب الجدد. وتنوع سويات النصوص المترجمة أمر إيجابي، فلكل نوعٍ قراؤه، أما النصوص السيئة فسيغربلها الزمن والسوق. بكل الأحوال ازدياد نشاط الترجمة أمر إيجابي باعتقادي! في النهاية خطابنا يختلف دوماً بحسب من نخاطب. لذلك أرى أن التركيز على المواضيع المهمة بالنسبة للألمان أمر جيد، واستخدام لغة مفهومة تستطيع الوصول إلى قلوبهم وعقولهم، لكن هذا لا يعني أن نتخلى عن آرائنا وقيمنا لأن ذلك سيجعلنا نكتب أدباً رديئاً!
– بعد خبرة 25 سنة في الترجمة، ماهي صعوبات نقل لغة إلى أخرى مختلفة عنها تماماً؟ وماذا عن تدريسك للعربية طيلة 20 عاماً؟
المترجمون من العربية يعانون من عدم وجود تحرير وتدقيق لمعظم النصوص العربية، ففي ألمانيا أكبر كاتب يستمع إلى محرره Lektor. هناك نصوص معقدة لغوياً، وهناك مبالغة في استخدام الصور والتشبيهات وغيرها، الأمر الذي يجعلني أحتار بين الحفاظ على روح الكتاب العربي وبين نقله إلى ألمانية مفهومة. أحب أن أحافظ على روح العربية وخصوصيتها على أن تكون مفهومة للقارئ الالماني ولا تبدو لغة مزركشة ومبالغاً بها. أنا أترجم على مراحل، أعيد كتابة النص مرات ومرات، أقرأ بصوت عالٍ لأسمع نغمة اللغة. أما في التدريس فأحاول نقل جمال اللغة العربية لطلابي لأني أحبها أولاً ولأن التدريس رسالة أيضاً!
– وما هي رسالتك هذه المرة للقادمين الجدد؟!
جرّبوا أن تتعرّفوا على الآخر جيداً قبل الحكم عليه. التعليب والأحكام المسبقة التي يطلقها الألمان تجاه العرب سيئة، تماماً كالأحكام المسبقة من العرب تجاه الألمان. للألمان تاريخ طويل ومعقّد، ربما تجب معرفته لنفهم المجتمع والبلد، فقد تمّ التعتيم على أشياء كثيرة من الحقبة النازية، رغم أن الأبناء وقفوا منذ القرن الماضي وحتى اليوم ضد ما فعله الآباء. لذلك فكيفية تعامل الألمان مع تاريخ قاس وغير إنساني كتاريخنا أمر يهمّ السوريين اليوم، وينبغي أن يتعلّموا منّا الكثير، خصوصاً فيما يتعلّق بالحروب وصدماتها وكيفية إعادة إحياء المجتمع وتجاوز الذاكرة البشعة ومساءلتها.
اقرأ/ي أيضاً: