in

في مخاطر “العقل الجمعي” المعاصر

مخاطر "العقل الجمعي" المعاصر

علياء أحمد. باحثة ومدرّبة في قضايا المرأة
يعرّف دوركهايم العقل الجمعي بأنه “مجموعة من المعتقدات والعواطف المشتركة بين الأعضاء العاديّين في مجتمع معيّن، التي تشكّل النسق المحدّد لحياتهم”. وتشير دراسات كثير من علماء الاجتماع الآخرين إلى تأثيرات “العقل الجمعي” على أفراد المجتمع، حيث ينصاعون عموماً وراء ما يصدره هذا “العقل” من أحكام ثقافية أو دينية أو طائفية أو غيرها، منجرفين في حالة قطيعية لا تنتمي إلى العقل الفردي، أو بتعبير آخر لا تنتمي إلى منظومة التفكير الفردية.

قد لايبدو الأمر بتلك الأهمية أو “المنطقية” في سياق ما، فما المشكلة في العقل أو الوعي الجمعي، من حيث توحّد جماعة ما بأفكارها ومعتقداتها وعواطفها؟ وما الضير في أن تمارس طقوسها في ظل هذا الانسجام؟ بالتأكيد لا ضير من وجود مجموعات تتشارك أفكاراً وأنماط حياة منسجمة فيما بينها. المشكلة تبدأ حين تتضمن هذه المشتركات أو تقوم على الكراهية والعنف، وتمارس الإقصاء ضد كل من يخرج عن المنظومة الجمعية، فضلا ًعن معاداة من لا ينتمي لها أساساً.

يشبّه كثيرون منظوماتهم الاجتماعية بأسراب الطيور التي لا ينبغي للفرد أن يغرّد خارجها أو يحلّق بعيداً عنها، أو بقطعان الخراف التي من شأن الابتعاد عنها أن يؤدّي إلى خطر التعرّض للذئاب. هذه المفاهيم “الجمعية”، وخشية معظم أفراد المجتمعات من أن يغادروا عباءة العقل الجمعي ومفاهيمها، تعود في جانب أساسيّ منها إلى قناعة زرعتها مجتمعاتهم المناهضة للفردانية، مفادها أن الفرد، بعقله “القاصر” و”البسيط” و”المحدود”، لن يرقى إلى حكمة “عقل الجماعة” وسموّه، ومن ثمّ عليه الانصياع لأحكام الجماعة وإلّا دفع أثماناً لا طاقة له بها. على هذا، لن يتجرؤوا على منح عقولهم فرصة التفكير بمعزل عن مسبقات “الجماعة” والتوصل إلى أحكامهم وتقييماتهم العقلانية الخاصة، فالسير ضمن “القطيع” سيبدو لهم أكثر أماناً وراحة، بل وربما وجدوا في هذا فائدةً ونفعاً.

في عصرنا، عصر ثورات تكنولوجيا الاتصالات الحديثة والتأثير الكبير للمنصات الاجتماعية والإعلامية، تنامت سلطة “العقل الجمعي” وسطوته على الجماعات والأفراد، وهو يزداد قوة وتأثيراً باضطراد. فمخاطره لم تعد مقتصرة على قمع أفراد الجماعة خاصّته، ورفض فردانيتهم وإدانة خروجهم عن القطيع فقط، وإنما باتت وسائل الإعلام ومواقع التواصل المختلفة ساحات معارك وصراعات بين “العقول الجمعية” المختلفة، تتسابق قطعانها في بثّ ثقافة الكراهية وشيطنة الاختلاف والمختلف، في حروب كلامية  وعنف إلكتروني، يشكّل ظهيراً للجرائم التي تحدث على أرض الواقع، فيبارك قطيع كلّ عقل جمعيّ جرائم أبناء جلدته ويبرّرها، ويراها دوماً “ردّ فعل” على الكراهية والعنف الذين يضمرهما أو ينشرهما القطيع الآخر ضدّه. ومع تواتر موجات الكراهية المتبادلة، يتفنن كل “قطيع” بإظهار أسوأ ما لديه، معطياً العلة والمبرر للآخر ليزيد من كراهيته.
ينطبق هذا التوصيف على المجتمعات كافّة، لكن بدرجات بالغة التفاوت بين مجتمع وآخر من حيث اتساع نطاق المتأثرين بسيطرة “العقل الجمعي” وأحكامه. طبعاً هذا التفاوت ليس لأسباب جوهرية جينية ثابتة، وانما يعود بدرجة أساسيّة إلى تطوّر القانون وقوته وشمول تطبيقه، ومدى استقلالية الأفراد ومنسوب الحريات الشخصية في المجتمع المعني.

لعل ظاهرة “الإسلاموفوبيا” وشعارات اليمين الشعبوي التي تغذّيها تقدّم مثالاً حياً عن العقل القطيعي الجمعي، فالإسلام من وجهة نظر كارهيه هو “دين الإرهاب” تعريفاً، وكل سلوك إجرامي يرتكبه مسلم يعبّر عن المسلمين جميعاً. لا شكّ أن في الدين الإسلامي، كما في كل دين، ما يمكن لخصومه اجتزاؤه والاستناد إليه لدعم موقفهم منه، وهو ما يفعله اليمينيون المتطرّفون. لكنّ المفارقة أنّ “العقل الجمعي” المقابل، والذي يقوده الإسلاميون وتكرّسه وترعاه دول وحكومات اتّخذت من الإسلام مطيّة لخدمة مصالحها، يعزّز من هذه “الإسلاموفوبيا”، فيزجّ بالمسلمين عامّة في مواجهة مع “الغرب” الذي لا يفعل سوى “التآمر على الإسلام”. وليس من الصعب ملاحظة انجرار كثير من المسلمين إلى تبني شعارات وممارسات تعزّزّ الاتهامات الموجّهة ضدّهم، مدفوعين بنوعٍ  من “القطيعية” المستندة إلى توجيهات “العقل الجمعي”، والذي نؤكّد مجدداً أنّ من يرعاه ويكرّس من سطوته سلطات سياسية ودينية مستبدّة.
إن نجاة العالم رهن بثورات فكرية وقانونية وثقافية تحدّ من سلطة “العقل الجمعي” أو تعقلنه في ضوء حقوق الإنسان، بوصفها المشترك الأسمى بين بني البشر، عوضاً عن مقدّسات الكراهية والعنف المتصارعة.

اقرأ/ي أيضاً:

بيان لسوريات وسوريين يدين استخدام الدين في الصراعات السياسية ويدعو لجبهة عالمية تدافع عن الإنسان
د. محمد شحرور: العقل العربي وإنتاج المعرفة
ماذا سيكتب عنا التاريخ ؟!
خطوطنا الحمراء… والخضراء أيضاً

بيان المنظمة الدولية للمعتقلات السوريات في اليوم العالمي للقضاء على العنف ضدّ المرأة

بيان المنظمة الدولية للمعتقلات السوريات في اليوم العالمي للقضاء على العنف ضدّ المرأة

جنازة مارادونا: الأرجنتينيون يلقون نظرة الوداع الأخيرة على أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا

جنازة مارادونا: الأرجنتينيون يلقون نظرة الوداع الأخيرة على أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا