لم تكن غابرييلا جدو تفكر أن تعلّقها بالتاريخ الذي لم تشهد عليه والصورة التي رسمتها لمدينة من مدن بلدها الأم وأحبتها سيضعانها موضع الشبهات ويثيران خوفها لأسابيع في بلدها الحالي الذي تعيش فيه وتحمل جنسيته.
غابرييلا التي كانت تعمل في شركة سياحية، وتعمل في شركة أخرى كمترجمة ومسؤولة عن السياح العرب، قررت أن تترك وظيفتيها وتبدأ عملها الخاص. قرارها ذلك جاء بعد أن سافرت في رحلة عمل إلى أحد المعارض السياحية في دبي كمترجمة للشركة التي كانت قد دخلت حديثًا سوق العمل العربي. ولأنها كانت تملك الكثير من العلاقات والصلات الجيدة في سوق السياحة، وبسبب عدم وفاء الطرف الآخر بمستحقاتها المادية قررت أن تشرع في تأسيس شركتها السياحية الخاصة.
الاسم الذي اختارته لشركتها، كان جاهزًا قبل بدئها بالتحضير لمشروعها. تقول غابرييلا: “كنت أريد اسمًا يتعلق بالتاريخ، وبذاكرتي تحديدًا، ولهذا اخترت أن أطلق على شركتي اسم “إميسا”، فهو اسم سوري خالص ويعكس بطبيعة الحال شعوري تجاه مدينة حمص التي أحببتها كثيرًا؛ ربما لحب أهلها المفرط لها والذي اكتشفته في الثورة السورية، وأيضًا بسبب الصورة التي انطبعت في ذاكرتي عنها حين زرتها للمرة الأولى في طفولتي قبل مجيئي إلى ألمانيا”. وتضيف غابرييلا إنها اختارت الاسم بعد أن أجرت بحثًا عن المدينة على محرك البحث غوغل، ما جعلها تتخذ قرارها بشأن ذلك.
في الشهر الأول من العام الحالي قامت غابرييلا بتسجيل شركتها قانونيًا وكان كل شيء جاهزًا، حتى قررت أن تستفيد من دعم مادي بسيط تقدمه الدولة للمشاريع الشخصية التي يتم إنشاؤها حديثًا. وهكذا توجهت إلى مبنى بلدية بريمن حيث تقيم لتقوم بملء الأوراق اللازمة.
“في البداية كان كل شيء جميلاً”، تقول غابرييلا، وتتابع: “الموظفة التي جلست معي كانت سعيدة بالمشروع وأثنت على الفكرة التي لاقت إعجاب الجميع، وأنا كنت في عجلة من أمري لأنهي جميع الترتيبات قبل انطلاق العمل الذي كان مقررًا في الأول من شهر فبراير”.
بعد أسبوع من ذلك اللقاء قامت غابرييلا بالاتصال بالموظفة لتستفسر عن سير العملية فقامت الأخيرة بسؤالها عن معنى الاسم وسبب اختيارها له. شرحت غابرييلا كل شيء عن المدينة وتاريخها وما تعنيه لها وتلقت وعدًا بإرسال الموافقة قريبًا، الشيء الذي لم يحدث.
في اتصال آخر أجرته غابرييلا مع الموظفة، أخبرتها أن الأمور لا تسير على ما يرام، وشرحت لها أن إدارة البلدية أجرت بحثًا عن المدينة التي كانت مرتبطة من وجهة نظرهم بالإرهاب، وأصبحت غابرييلا محط شكوك وإشارات استفهام ومطالبة بشرح علاقتها بمدينة كل ما يربطها بها ذاكرة طفولية وإعجاب بصمودها.
من المحزن أن يرتبط اسم مدينة عريقة حضاريًا بالإرهاب، لمجرد أنها تعاني منه، حمص، باللهجة الحمصية (حُمص)، مدينة عريقة تاريخيًا، أول من ذكر اسمها القديم الذي عرفت به (إيميسا) كان المؤرخ الروماني بليني الزعيم في كتابه التاريخ الطبيعي. ويتحدث الخوري عيسى أسعد في كتابه “تاريخ حمص” أنَّ منشأ هذه المدينة يعود إلى نحو سنة 2300 قبل الميلاد، وأن اسمها آنذاك كان (حماة صوبا)، وقد ذكر في وثائق إيبلا أنها كانت مستعمرة رومانية هامة.
تعاقب على هذه المدينة الأموريون – الحيثيون – الفينيقيون – الآراميون – اليونانيون – الرومانيون – العرب – الأتراك – العرب.
حمص، مدينة التي تقع في وسط سوريا، عُرفت بأنها مدينة الفرح والسلام، مدينة التنوع الإثني والطائفي، ويشتهر أبناؤها بسرعة البديهة وخفة الظل، وفي كافة أرجاء محافظة حمص تنتشر الكثير من الأثار وعدد من أهم المناطق الأثرية والتاريخية والأديرة والقلاع مثل قلعة الحصن الأثرية التي تعد من أجمل القلاع في العالم، وتتوسط عاصمة المحافظة قلعة أسامة (قلعة حمص) وبها عدد كبير من الأوابد التاريخية والمباني والكنائس والجوامع والمساجد مثل كنيسة أم الزنار وجامع خالد بن الوليد ودير مارجرجس البطريركي ومملكة قطنا وقادش وقصر الزهراوي والحمامات المعدنية في منطقة أبورباح وغيرهم أوابد وأوابد وأثار كثيرة جدًا. هذا بالإضافة لمدينة تدمر الأثرية عاصمة مملكة تدمر الشهيرة بأوابدها وأثارها. وتعتبر حمص من أهم المدن السياحية في سوريا بتنوعها الجغرافي الكبير بالإضافة إلى ذلك يوجد حمامات الماء الساخن في طريق تدمر وتدعى حمامات أبو رباح ونبع عين التنور وعين الفوار وهي مياه صافية من سلسلة جبال لبنان الشرقية الممتدة إلى سوريا. كل هذا الإرث الحضاري أصبح فجأة بفضل محرك البحث “غوغل” مجرّد صور للدمار والحرب والموت، وندر وجود شيء عن جمال هذه المدينة وسحرها في المحتوى الإلكتروني!
رغم المخاوف التي أحاطت بغابرييلا من احتمال تهمة قد تطالها، إلا أنها لم تفكر بالتراجع عن حلمها أو بالانصياع إلى ضغوط لا مبرر لها من جهة لا تعلم عن التاريخ أكثر مما وجدته على محرك البحث الذي تعتمد مصداقيته على المنقول من الأخبار من هنا وهناك.
طلبت البلدية ضمانات من غابرييلا تؤكد عدم علاقة الشركة بالإرهاب وبتمويل الجماعات المتطرفة، ومع أنها شرحت لهم تاريخ المدينة الديني وأكدت على المرجعية اليونانية لاسم “إميسا”، إلا أنها اضطرت لكتابة رسالة تتعهد من خلالها بعدم علاقتها بالتطرف.
غابرييلا لم تذعن، ولم تتخل عن حلمها، لأنها كانت متأكدة كما تقول من أحقيتها بالانحياز لمشروعها أولاً، ومن أن التحقيقات التي سيتم إجراؤها بخصوصها لن تفضي إلى شيء. ورغم مخاوفها التي عاشتها خلال تلك الأسابيع إلا أنها استمرت حتى النهاية، حيث نجحت بافتتاح المشروع، واحتفلت بذلك، ولم يتغيّر شيء على الاسم … إيميسّا.
غابرييلا جدو من مواليد مدينة القامشلي السورية ومن سكان مقاطعة بريمن الألمانية. حصلت على الشهادة الثانوية في ألمانيا، كما تخصصت كمساعدة في مجال طب الأسنان، وتعمل منذ خمسة أعوام في مجال السياحة.