آدم الشامي. ناشط سوري مقيم في فرنسا
“عندي صبيين.. بس مو متل بعض” هذا هو جواب أمي إذا كان لأحدكم الفضول وسمحت له الفرصة لسؤالها عن عدد أولادها.
وربما دون أن تسألونها ستجد ألف طريقة لإقحام هذه الجملة، حتى وهي تحاسب بائع الحليب: “مو متل بعض”، وأنا متأكد أنها ستتابع السرد لتخبركم عن ابنها الأصغر إياد عندما كان بعمر الرابعة كيف أمسك العصفور الميت وقربه مني لأصرخ مذعوراً، أنا من أكبره بعامين.
ربما أيضاً ستحكي عن الشجار اليومي بين ابنيها إياد وهادي -هذا إسمي بالمناسبة-، شجارٌ يستخدم فيه إياد بنادقه البلاستيكية وقدميه العنيفتين “اااخ كتفي”، تذكرت ألم الضربة لمجرد الحديث عن ماض ظننتني نسيته، ليذكرني به مروري أمام واجهة لألعاب الأطفال لأرى نفسي وأنا في العاشرة بين تلك الدمى، ألعب بدمية ورثتها من ابنة عمي، التي هاجرت إلى كندا، وهاجر معها صحن البزر وأحاديثنا، واهتماماتي وكثير من غضبي من عنف المخلوقات الذين يشبهونني بالشكل فقط وطول الشعر ربما. أنا الذي لم تفلح كل محاولاتي في إقناع أمي بأن تشتري لي ما أحب من دمى ذات شعر طويل وفساتين ملونة، أو أن تشاركني في سرد القصص التي بها أهتم.
اقرأ/ي أيضاً للكاتب: أنا وحاجبيّ.. والشاهق الموعود في الصحراء
أمي.. رأيت اليوم جارتنا سعاد بفستان مضحك يشبه فستان أم أحمد في مسلسل عيلة ٥ نجوم…
ليكون ردها لك: “أنت صبي”.
أمي أريد نقوداً لأشتري موز وزبيب، تعلمت من ابنة خالي طريقة تحضير كيك الموز.
“لك إنت صبي” طبعاً هذا ردها أيضاً.
سمعتها مرة تقول لأبي لن أشتري في العيد ثياب جديدة للأولاد فإياد رجل صغير لا تهمه هذه الأمور، وأريد أن أجعل من هادي رجلاً هو الآخر، لا يهتم بما يلبس ولا بنظافة القميص ولون البنطال. وكان ما أرادت هي وما لا أريده أنا.
اقرأ/ي أيضاً للكاتب: أنا لم أنسَ شيئاً..
٣ أيام في غرفتي وحدي أصارع شيئاً لا أعرفه، أنتصر عليه بعنادي مرة، وينتصر علي في حنقي مرات، رغبة عارمة للخروج واللعب، يقابلها رفض خانق لخجلي من ثياب اعتادت عليها أعين من حولي.. تسللت عمتي إلى غرفتي يومها ويداها مشغولتان بهدية العيد وفمها مليء بألف حكمة ونصيحة عن الرجل وصفاته، وبشاعة نعومة الأنثى وضعفها، منهيةً كلامها: “أنظر لأخيك إياد لا يهمه ما يلبس، وكل المدرسة تخشى ركلته وعناده”. وخرجت أخت أبي تاركة ألف صورة لإياد في غرفتي يتناوبون على سحقي.
إياد يحب صحبة أبي، ورغم محاولات أبي الدائمة لاصطحابي بسيارته لزيارة الميكانيكي والنجار وجميع معارفه، إلا أن أحاديثهم لم تجذبني يوماً، بماذا يهمني سعر طن الحديد. ربما أيضاً لا يهمني سعر متر القماش. ولكن أشعر بملل أقل عندما أشارك في الحديث عن الأقمشة وألوانها ونقشاتها لتزداد خبرتي فيها وبتصاميمها لتختارني خالتي سعاد للذهاب معها إلى السوق واختيار فستان زفافها، وكان أن ذهبت معها، فامتنعت أمي حضور عرسها بعد خلاف كبير احتجاجاً على اصطحابي في مهمة نسائية أنا الصبي الذي يشهد ذلك العضو على ذكورته.
مضت أعوام وجاء ذلك اليوم وأنا في عمر العشرين، عندما استعد أخي لطقوس حضور أول فيلم “سكس”، بحضور صديقه عادل ولعادل قصة أخرى سيأتي دورها. يومها انتظرنا خروج أهلي من المنزل فدخل عادل متسلسلاً بذلك القرص الذي وصل قبله إلى الكمبيوتر لتبدأ المشاهد بفتاة ترقص معانقة عموداً من الستانلس. احمرّ وجه أخي ربما خجلاً وربما إثارة مع بدء الفتاة بخلع ثيابها تدريجياً وهو الشيء الذي لم يصبر عليه عادل فبدأ بفتح أزرار قميصه، لأبدأ أنا بامتهان أول عملية سرقة في حياتي وأعيش تحت وطأة أن تسرق شيئاً وصاحب هذا الشيء ربما يراك. التهمت عيناي تفاصيل ما ظهر من جسده، ليضيء وجهي باللون الأحمر كما الراية الحمراء في حلبات إسبانيا.
“هادي هادي هادي..” كررها أخي ٣ مرات كما ادعى لاحقاً، وقال أنني كنت من التركيز في تفاصيل جسد عادل لدرجة لم أشعر ولم أسمع وهذا ما دفعه للقفز علي حينها ناطحاً ضارباً مدمياً كل ما ظهر من جسمي، فشرف الأسرة على المحك. أذكر يومها أنني لم أصرخ، لم أتألم لم أغضب لم أبكِ. فقط شعرت بالضياع مع كثير من الخجل والملوحة في فمي، وكثير من المرار في روحي فطعم الاختلاف مر.
مضى خمسة عشر عاماً، هي بعدد الكلمات والجمل التي تبادلناها أنا وأخي كل هذه الفترة، ربما تزيد قليلاً إذا حسبت معها ملاحظاته لي مثل: “غير مشيتك”، “وعلى فكرة اللون الأصفر مش لابقلك”، “سألني أصدقائي عن سر ملازمتك المنزل، ولماذا لا تفكر بالهجرة؟”.
ليدخل أبي وترتطم هذه الكلمة في أذنيه، ليجدها بداية لأحاديث ما كف يوماً عن تلاوتها آناء الليل وأطراف النهار، عن عار أولئك الذين يشتهون من يشبههم، عن قذارتهم وسفالتهم ونجاسة عائلاتهم، ويترك أبي لي فقط فسحة التأكيد على ما يقول. تأييد حزين وخجول، تأييد أخرس. تركت أخي وأبي وعدت إلى غرفتي وعالم خيالي، عالم أشبه فيه أخي، ولا ينهكني عبء الاختلاف، بأنه يمكن للذكر ألا يشتهي من خلقت من ضلعه، فربما يحب من خلق من روحه وقلبه.
“ويا حلاق اعملي غرة”، أغنية فيها من الدلع ما كان يجعلني أكسر معالم وتماثيل كل عالمهم الحقيقي وعالمي المتخيل، تدخل كلمات الأغنية ولحنها فجأة إلى عقلي معلنةً زوال خيالي وتحرري من حلمٍ وهمي، لأبدأ بغنائها متناسياً وناسياً ما يريدون أن أكون، وأعيش ولو مع نفسي كما خلقت لأكون.