عبد الرحمن عباسي، 22 عامًا، يدرس طب الأسنان في جامعة غوتينغن – ألمانيا، وصل إلى ألمانيا قبل ثلاث سنوات كطالب بعد رحلة طويلة قطع فيها عدة دول، تعلّم اللغة، وبدأ بالدراسة. وهو أيضًا موظف في مكتب الهجرة في مدينة غوتنغن. أسس مع صديقه علاء فحام صفحة “German life style“، حيث يصنعون مقاطع فيديو ساخرة باللغتين الألمانية والعربية، لمحاربة العنصرية وتعريف القادمين الجدد بنمط الحياة الموجود في ألمانيا.
حوار: رامي العاشق
لم ألتقِ بعد بهذا الشاب الذي أتابعه وأراه شعلةً من الطاقة والجهد، إلّا أن بعد المسافة بيننا لم يقف عائقًا أمام اتصال هاتفي غرضه إجراء حوار صحافي، لكنّه كان أكثر من ذلك، نديّة الأفكار التي يحملها عبد الرحمن عباسي جعلت الحوار أقرب لمباراة في (تنس الطاولة) حاول كثيرًا أن يكون ديبلوماسيًا ومراوغًا، وحاولت استدراجه للتصريح، لم يهدف الحوار لإقناع أحد منا بأفكار الآخر، فنحن نتشارك كثيرًا من الأفكار، إلّا أن هدفه ببساطة، تحوّل من عرضٍ لقصة نجاح لشاب سوري، لنقاش سياسي اجتماعي على هامش قصّة النجاح.
لنبدأ من السياسة
حصل عبد الرحمن عباسي على منحة سياسية من مؤسسة “Friedrich-Ebert-Stiftung”، بعد أن أثبت أنه ينشط في المجال السياسي والاجتماعي في ألمانيا، وهو كذك عضو في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني “SPD”، ولكن، كيف يمكن للاجئ أن يكون عضوًا في حزب وطني؟
يقول عبد الرحمن: “عضويتي ليست كاملة، لا أستطيع التصويت لعدم حصولي على الجنسية الألمانية بعد، ولكنني عضو فعّال، ويشركني الحزب في كثير من الأمور، الأمر بالنسبة إليّ تجربة جديدة لتعلّم النشاط السياسي هنا في ألمانيا”.
- ولكن لماذا “SPD”؟ لماذا اختار عبد الرحمن أن يذهب إلى حزب اشتراكيّ؟ هل كان منتسبًا لهذه الأيديولوجيا في سوريا؟
- “في سوريا كنت طفلاً، لا أعرف من الحياة شيئًا، حتى أنني كنت معتمدًا على أهلي في كلّ شيء، لكنني هنا، بدأت بناء نفسي بطريقة مختلفة، أنا اليوم أكثر نضجًا ووعيًا، وما زلت أتعلّم دائمًا، اخترت أن أنتسب لحزب “SPD” لأنني أعجبت بسياسته وأفكاره، النظام الضريبي الذي يسعى إليه الحزب، تحصيل الضرائب العالية من طبقة الدخل المرتفع وإعطائها للأقل دخلاً يشعرني بالعدالة، موقف الحزب من اللاجئين أيضًا جيد، كذلك موقفه من الحريات الشخصية، كل هذا لم أجده في الحزب المسيحي الديمقراطي مثلاً، فهو حزب محافظ، أما حزب اليسار فأراه يسعى لخيارات غير واقعية، كما أن موقفه من روسيا لا يعجبني”.
- وماذا عن حزب الخضر؟
- “في الحقيقة كنت محتارًا في البداية بين الخضر والاشتراكي الديمقراطي، إلّا أنني لاحظت أن موقف حزبي أكثر نضجًا تجاه اللاجئين، الخضر يبالغون في حبّنا!”.
- ولكن، أين موقفك مما يجري في سوريا؟ هل لك موقف؟
- “بالتأكيد، أنا ضد الحرب وضد كل أشكال القتل التي تحدث”.
- بوضوح أكثر: “ما موقفك تجاه النظام السوري؟
- “ضده بالتأكيد، ويجب أن يرحل، وهذا لا يعني بالضرورة أنني موافق على ممارسات المعارضة”.
German life style
ذهبت إلى صفحة “German life style” على فيسبوك، في المعلومات عن الصفحة لا يوجد إلّا جملة واحدة: “ننقل لكم نمط الحياة في ألمانيا.. بكل مافيه”، شعاراتية هذه الجملة وخطابيتها وتعميمها يطرحون أسئلة كثيرة، ما الذي تفعلونه هنا يا عبد الرحمن؟
“عندما أتيت إلى ألمانيا، لاحظت وجود صورة نمطية وحكم مسبق منا عن الألمان، والعكس صحيح، فقررت مع شريكي علاء أن نبدأ بصناعة فيديوهات تشرح عن طبيعة الحياة، والفكرة تطورت بعدها، فقد أصبحنا نستهدف المجتمعين، المحلي والوافد حديثًا باللغتين العربية والألمانية، والآن لدينا ما يقارب 96 ألف متابع”.
- لماذا “German life style” وليس “Syrian life style”؟
- “كما ذكرت، فإننا بدأنا توجهنا للسوريين، لنتحدث عن “نمط الحياة الألماني”، ونعرف أنه يوجد أكثر من نمط، إلّا أن الكوميديا التي انتهجناها في عملنا تسمح لنا بالمبالعة”.
الاندماج
الاندماج مصطلح كثير التداول، حتى إن كثيرين ممن يتحدثون عنه، لا يفهمون معناه، بل يتعاملون بسطحية مع اصطلاح يجب أن يكون أعمق من ذلك، بعضهم يريده انسلاخًا، بعضهم يريده استيعابًا، وآخرين يريدونه نديًا ويقولون إنه ليس باتجاه واحد، لكنهم فقط يرددونها دون عمل، وهناك بالتأكيد أخرون لا يؤمنون بالاندماج على الإطلاق، ولا يعتبرونه خيارًا مناسبًا لهم، كيف يرى عبد الرحمن عملية الاندماج وكيف ينظر إليها؟
“أنا لا أحب كلمة الاندماج، خاصة كيف يتم التعامل معها، أفضل كلمة التضمين والاحتواء، “inclusion” والتي تعني أن تعيش المجموعة الصغيرة ضمن الكبيرة، وأن تحتوي المجموعةُ الكبيرةُ المجموعةَ الصغيرةَ وتعترف كل واحدة بالأخرى. بالتأكيد نحن ندافع عن الحفاظ على الهوية، لا أرى أن تخلّي اللاجئين عن هويتهم أمر صحي”.
- ولكن الدين جزء من الهوية، كيف يمكن أن يحافظ الإنسان على هويته ودينه الذي قد يتعارض مع كثير من الأمور هنا؟
- “بالتأكيد هناك الكثير من المشاكل المرتبطة بفهم الدين”.
- سؤالي ليس على فهم الدين، بل على النص الديني الواضح، تحديدًا فيما يتعلق بقضايا المثليين واللادينيين، ما الحل من وجهة نظرك؟
- “عندما تتعارض الثقافة أو الدين مع حقوق الإنسان والحريات الشخصية، علينا أن نتخلى عن الجزء الذي يتعارض معها، حقوق الإنسان والحريات هي الأهم”.
- لنتحدث عن خطوات عملية، برأيك ما هو المطلوب منا كلاجئين هنا؟
- “أن نتقبل الآخر ونحترمه، أن نتعلم اللغة التي أراها ضرورة أساسية ملحة، وأن نؤمن بأننا جزء من هذا المجتمع وبالتالي تقديم شيء مفيد”.
- ومن الألمان؟
- “تقبل الآخر واحترامه والدفاع عن حقه بأن يكون مختلفًا، وأن يعترفوا بأننا جزء من هذا المجتمع، جزء نديّ له الحقوق ذاتها وعليه الواجبات ذاتها”.
الألمان والتفكك الأسري!
تتحدث كثيرًا عن الصورة النمطية، وتكرر هذا المصطلح، هل هناك أمثلة حقيقة عن هذه الكلمة؟
يجيب عبد الرحمن عباسي: “بالتأكيد، الألمان في نظر كثير من القادمين الجدد منظّمون ودقيقون في مواعيدهم كالآلات، وهذا غير صحيح دائمًا ولا يمكن تعميمه، الألمان أيضًا متهمون بأنهم لا يضحكون وغير بشوشين، وهذا أيضًا غير دقيق، بالإضافة لمصطلح غريب يطلق لمحاربة الحرية الشخصية في ألمانيا، يطلقه أعداؤها، ويتهمون الألمان والأوروبيين بالتفكك الأسري، هذه كلها صور نمطية مترسخة في الثقافة التي تنظر إلى المجتمع الآخر على أنه كتلة متجانسة، ولا ترى التنوع والاختلاف”.
وعند سؤاله عن الصور النمطية عن السوريين، أجاب: “التخلّف، هذه أولى الصور النمطية، نحن متخلفون بنظر مطلقي هذه الأحكام، ولا نعرف الحضارة أو التمدن، لا نعرف استعمال المرحاض، وكنا نعيش في الصحراء مع الجمال، كذلك سيدهش كثيرون إن رأوا امرأة سورية بلا حجاب، وبأحسن الأحوال سيعتقدون أنها خلعته في ألمانيا حين تحررت من مجتمعها، ولا يعتقدون أن كثيرات يرتدينه عن قناعة، وبالتأكيد لا يمكنني أن أنسى أن صورة اللاجئ الأولى هي الفقر والجهل، لا يمكن أن يكون متعلمًا، ولا أن يحمل هاتفًا ذكيًا..إلخ”.
عباسي: يقولون لي: أنت مندمج ألماني تخليت عن أصلك وأخلاقك
كثيرًا ما تكون ردود الأفعال متفاوتة تجاه أي قضية أو شخص أو قصة، كثير من الناس يهاجمون أي شخص يصبح تحت الأضواء ويحاولون تحطيمه، وكثيرون يحاولون صناعة صنم منه، كيف هي ردود الأفعال على ما تقومون به؟ سألت عبد الرحمن وأجاب:
“بالتأكيد هناك ردود أفعال مختلفة ومتفرّقة منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي، سأطرح بعض الأمثلة عن ردود الأفعال السلبية لأن مقارنتها مضحكة:
عنصريو الألمان يقولون: طالما أنت ذكي لهذه الدرجة؛ فعد إلى بلدك، لا نريدك هنا، من يهاجمونني من أبناء بلدي يقولون: طالما أنت ذكي لهذه الدرجة، لماذا لم تفعل شيئًا لبلدك.
عنصريو الألمان يقولون: طالما أنك تنتقد الدولة، فعد من حيث جئت. من يهاجمونني من أبناء بلدي يقولون: هذه ليست بلدنا، لا تتدخل فيها، وإن لم يعجبك فعد من حيث أتيت.
عنصريو الألمان يقولون: سوري إرهابي. من يهاجمونني من أبناء بلدي يقولون: مندمج ألماني تخلّى عن أصله أخلاقه”.
وهل تعرّضت لتهديدات بسبب آرائك؟
“تعرّضت لتهديدات من بعض السوريين حين كتبت رأيي مدافعًا عن امرأة تعرضت للعنف من زوجها، ولكن هذه التهديدات لم تنفذ”.
تعلّم عبد الرحمن اللغة من احتكاكه بالألمان وبناء الصداقات معهم، فسكن بداية في بيت مشترك مع ألمان، وكان يتواصل معهم بالألمانية بشكل مستمر، ولم يخجل من أخطائه، هذه التجربة أيضًا، فتحت مداركه على أمور أخرى، فلطالما كان يتخوّف من المثليين بحكم ما سمعه مسبقًا عنهم، وما يروجون له من فساد في الأرض ويريدون نشر المثلية وممارستها مع الجميع، إلّا أن صديقته “كريستينا” التي سكن معها في البيت المشترك، كانت مثلية، ولم تكن أبدًا كما قالوا سابقًا، تعامل معها على أساس أنها إنسان، بعدها بدأت مفاهيمه تتعمق، وأصبح أيضًا مناصرًا لحقوق المرأة، ويجيب على العبارة المكرورة “أترضاه لأختك” بـ: إن كانت هي ترضى شيئًا ما لنفسها، فأنا أرضاه. كل إنسان حر، وكل إنسان هو مالك جسده، ولا وصاية لأحد على أحد.
نجاحات وإنجازات:
على المستوى الشخصي، يعتبر ما حققه عبد الرحمن عباسي نجاحًا قلّة استطاعوا أن يقوموا به، فهو يدرس ويعمل في وقت واحد، وفي بلد مختلف، ويساعد اللاجئين في مركز الهجرة الذي يعمل به، له نشاطاته السياسية والاجتماعية في مواجهة العنصرية والنمطية وخطاب الكراهية، وتعلّم اللغة بفترة قياسية. عباسي يقول: “أنا آخذ العنصرية بشكل شخصي”.
على مستوى “German life style” فلقد أصبحوا متابعين بشكل جيد، ويقومون بصناعة الفيديوهات التي تحارب النمطية والعنصرية، استطاعوا أن يصلوا إلى منصّة “TEDX” ليعرضوا مبادرتهم، وهذا الوصول كان يعني لهم الكثير، كما أنهم يقومون بمحاضرات في عدة مدن ألمانية، ويفتحون جدالات ونقاشات تفيد بطرح وجهة النظر الأخرى.
بقي عبد الرحمن مصرًا على الحديث بإيجابية وأمل طوال الوقت، وأصرّ أنه لا يهدف لأن يكون الشخص الذي ينتقِد دائمًا، واختتم بأن لديه أمل كبير في كل شيء. حتى كل هذه التناقضات التي يراها نتيجة الاختلاف لن تدوم، الأمر فقط يحتاج إلى وقت.. وأنهى الحوار بعبارة: “عندي أمل ما بيخلص”.