حسام قلعه جي. كاتب سوري مقيم في ألمانيا
حاسة الشم في الأوطان التي تحترق على مهل، هي على عكس بقية الحواس ففي حين تجبرك الحواس الأخرى كالبصر والسمع واللمس على حضور الأشياء القبيحة كالدمار والخراب واللون الأحمر دون أن تملك القدرة على فعل شيء، تبقى حاسة الشم نبيلةً سريةً لا تستطيع أجهزة الأمن أو رجال البوليس التقاطها.
لا أحد يستطيع أن يشم بأنفك تماماً مثل رواية العطر، لذا فإن أنفي هنا يعاني، ومنذ أشهر توقف عن العمل نهائياً. أحياناً أستحضر رائحةً ما هنا أو هناك ولكن دون جدوى. رائحة الغسيل هنا تختلف عن تلك المعلقة على حبل الغسيل في شرفة تطل على دمشق. المطر الغزير هنا لا يساعد الأرض على التزين بعطرها لأنه مطرٌ مباغت لا يعرف المقدمات المناسبة، ولا يترك الفرصة للأرض لتتصاعد رغبتها رويداً رويداً. للأرض في دمشق بعد أول زخة مطر رائحةٌ مكتملة لأنثى خصبة.
أقول لسوسن كل ذلك. أوضح لها أن وجهها يبدو باهتاً في مكالمات الفيديو على قلتها، كما أن صوتها يبدو صوت امرأةٍ أخرى وهو يمر متداخلاً مع أصواتٍ وأصداءٍ لأصوات رجال جالسين في مكاتبهم وهم يتجسسون علينا. “مشتاقٌ لرائحتك” أقول لها ويضعف الاتصال بحيث تتجمد صورتها وهي تنظر إلي باهتمام.
أسرح في تفاصيل وجهها بضع دقائق منتظراً عودة الشبكة من جديد. أتذكر أنني لم أودعها حينما هربتْ. كنت أنانياً وأهوج. لكنّ كل شيء حدث على عجل. طلبتُ من السائق أن يمر من حيّ المهاجرين. سنتأخر قال لي. ولكنني أصريت على ذلك. تناقصت أمنياتي إلى أن اعتبرت رؤية مصباح شرفتها المضاء بمثابة وداعٍ صغير احتفظت به لنفسي. سألتها مرةً إن كانت مستعدةً للهرب معي وركوب البحر ولكنها سكتت.
في الصباح تصلني رسالة منها تخبرني فيها أنها حزينة لأجلي وأنها ستحاول إيجاد حل لهذه المشكلة المتعلقة بالرائحة. أثق بكلامها لأنها لم تخذلني في يوم.
يسلمني موظف البريد بعد أسبوعين طرداً. أخبرته بأن في الأمر خطأ ما إذ ما من رسائل ينتظرها الهاربون والمنفيون ولكنه يؤكد أن الطرد يحمل اسمي.
فتحت الطرد على عجل، تخيلت السيارات التي ركبها هذا الطرد والحواجز العسكرية التي عبرها، أتخيل الطائرة التي حملته بين أسراب السوخوي وال اف 16 وأستحضر منظر البحار التي شاهدها من نافذة أناسٌ متعبون لا يكترثون للطرد المرمي في ظلمة قسم الأمتعة. أتخيل الأيدي التي حملته من مكان إلى آخر والأصابع التي لمسته. الحواجز المختلفة التي قطعها الأشرار والأخيار، المرتزقة، الحواجز العسكرية، رجال المخابرات بقمصان الفيسكوز الملون. أفكر في كل الذين تحسسوا الطرد وتركوه يعبر في النهاية.
أكتب لها على الواتساب بينما أدخل أنفي في ملابسها الطازجة التي أرسلتها من الوطن. يستعيد أنفي ذاكرته الميتة ويغدو حساساً كأنف أرنب بري. يتحسن هواء المهجع المحمل بالأسى والتنهيدات الطويلة. ملامح الارتياح ظاهرةٌ على وجوه بقية اللاجئين في الغرفة عندما أفتح الكيس فتنسل رائحته بهدوء بين دخان السجائر والعرق الثقيل. ينظرون في عيون بعضهم البعض وكأنهم يستحضرون أشياء مفتقدة. أسرح في تأثير رائحة سوسن، في هذا السحر دون أن أجد تفسيراً مقنعاً.
أخبرها بأنها مجنونة ولا منطقية ولكنها تتجاهل ما أقوله وتسألني إذا ما كانت بقية من رائحتها تسكن فيه.
ـ “لبستهم ساعة، قلت في نفسي فلأساعده.. هذا المسكين. لا تستطيع الحكومات تقديم مثل هذه الخدمات”.
تسكت.. يهمد نزقها وجنونها المعتادان فجأة ويتناهى إلى أذني لوهلة صوت نشيج. أسألها عما جرى، ولكنها تتحايل على الموضوع، أخيراً تخبرني بأن كل الأشياء فقدت رائحتها وبأنها تعاني كما أعاني أيضاً.
أقدر ما تعنيه بكلامها وأفكر بإرسال شيء لها. أقرر أخيراً؛ أرسل لها كنزة بيجاما رياضية مطبوع عليها صورة سنجاب بني.
أحب سوسن لأنها تحبني دون مقابل.. هذا هو الحب. يبدو الأمر غريباً ولكنه ليس بأكثر غرابة من رائحة حرب تتفسخ منذ سنوات.
تستعيد رئتي حيويتها. ما بين رائحة الياسمين في الكيس القماشي الذي أرسلته كهدية إضافية، وما بين رائحة شجر الصنوبر العالقة في دانتيل حمالة صدرها أنقل أنفي. أدخل ملابسها الداخلية في وسادتي فيسترد عقلي كل الأحلام الجميلة عندما أغفو.
أخاف على الرائحة من أن يسرقها هواء الغرفة، فأسارع لأخبئها من جديد حتى لا يفسد هذا الكرم الآتي من بلاد بعيدة. احتفظ برائحة سوسن، أحفظها كما يحفظون القتلى والمفقودين في المشافي. أعامل ملابسها كما يعاملون مخطوطاً قديماً في متحف فريد. تصبح ملابسها مثل وردة بين دفتي كتاب.. رائحتها خليط من كل الأشياء المتناقضة.
مضى شهران منذ اتصالها الأخير، شكرتني على الهدية ولكنها سرعان ما أغلقت الهاتف في وجهي بعد أن وصفتني بالعاشق التعبان زاعمةً ألا رائحة للشوق في قميصي وأنها تسرعت عندما أرسلت شيئاً خاصاً إلى رجل ميت.
ـ “أتظن أن ما أرسلته لك كان لعب ولاد؟”
يرمقني بقية اللاجئين بخيبة أمل بينما يعاملني الآخرون بجفاء، ويمرون أمامي دون أن يلقوا التحية حتى.
منذ ذلك اليوم أرسل الرسائل إلى سوسن كل يوم ولكنها لا ترد. سوسن قد تكون هي الأخرى سافرت إلى بلاد بعيدة، مثل رائحتها التي تلاشت رويداً رويداً وسرقتها جدران المهجع وأنوف اللاجئين الآخرين.
لم يبق من سوسن شيء سوى خرقتين باليتين وياسمين يابس كجراد محنط.