د. بسام عويل. اختصاصي علم النفس العيادي والصحة النفسية والجنسية
من دون شك، فإن للتماهي مع البنى المعرفية الداخلية لابتكار الهوية الذاتية، تأثيرٌ بالغ الأهمية على سيكولوجية وسوسيولوجية تشكيل الهوية والهوية المضادة. وهو ما يجعلنا نعمل على التعامل مع الهوية الأخرى المختلفة من منطق الرفض والغرابة عن الذات، ما يسمح لنا بتغليب تلك الهوية وموضعتها في نمط عدائي يُشكل خطراً علينا. وهو ما يدفعنا إلى بناء الحواجز الاجتماعية والقانونية لتمكين أنفسنا من مخاطر تأثيراتها علينا، أو حتى تعاطفنا معها، وهو ما يُشعرنا بالأمان.
هذا التماهي هو من أنتج الهوية الجنسانية العربية والإسلامية عند الغرب المستشرق المتماهي بثقافته، كما أنه هو ذاته الذي أنتج الهوية الجنسية الغربية عند العرب المتماهي بثقافته الإسلامية في العالم. ولكن ماذا عن العقل العربي العصري الذي يحاول مقاربة الجنسانية و المثلية الجنسية ثقافياً ويحاول استنباطه من التراث العربي والإسلامي، بعيداً عن الهجوم أو الدفاع؟!
في استعارة رمزية لعناوين أعمال كل من فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وصامويل هنتنجتون (صدام الحضارات)، وما كان لتأثيرهما على القراءة العصرية الغربية لاستحقاقات صيرورة الصراع الحضاري بين الشرق والغرب (في محاولة لإعادة ترتيب عناصر لوحة صراعات الحضارات العالمية ومواضيعها ومآلاتها)، نجد أن التعامل مع مواضيع الجنسانية، وخاصة المثلية الجنسية بمنظورها الجندري من أبعاد ثقافية وحتى دينية، عادت لتُطرح بقوة كأحد عناوين الصراع، ولكن لا بين الحضارات فقط، لما فيها من محاولة لجعل التسامح في التعامل معها وتقبّلها كأداة تقيميّة لتموضع المجتمعات على أعلى أو أسفل السلم الحضاري والإنساني، وإنما كعنوان للصراع مع فلسفة العولمة الاجتماعية والهيمنة الغربية، والرفض لمحاولاتها إملاء المعايير السلوكية الجنسية على المجتمعات الأخرى والضغط عليها لتقبّلها.
وبذلك أصبحت “الجندرية” ساحة صراع حقيقية جيوسياسية أكثر بكثير مما تبدو عليه في بُعدها الجنساني الصرف، أو في ما يعدُّه بعضهم في منطقتنا العربية أيضاً محاولات للنيل من الإسلام، وذلك لأن الجدال حول الجندرية ورفض فلسفتها لا يقتصر على المجتمعات العربية والإسلامية، وإنما يطول الكثير من المجتمعات الأوروبية المسيحية كذلك الأمر.
إلا أن التعاطي مع مسألة الجندرية كوجه جديد للجنسانية في مجتمعاتنا العربية، جعل الكثيرين من الباحثين إن كان في علم السياسة أو علم الاجتماع أو علم النفس أو الجنس، يحاولون نبش التاريخ وإعادة قراءته. وتوزع هؤلاء الباحثون على امتداد ليس افتراضي، مادته الهوية الثقافية والدينية والحضارية، نجد في أحد أطرافه التماهي مع القيم الجنسية الغربية المسوقة بشكلها الجندري، وفي الطرف المقابل مقاومة لها، إما دفاعاً عن الهوية، ودفاعاً عن الأعراف والتقاليد المجتمعية، أو دفاعاً أيضاً عن القيم الدينية.
بعض الباحثين المعاصرين العرب مثل جوزيف مسعد، رأى في تعميم الجنسانية الغربية ومحاولة فرضها بأدوات المنظمات العالمية التي تشرف عليها وتُديرها الدول الغربية، تحت عنوان الجندريّة، هو “جزءٌ لا يتجزّأ من المشروع الغربي الأمبرياليّ نفسه”.ولم ينطلق الباحث في مقاومته لهذا الفكر من البعد الديني، وهو العلماني التوجه، وإنما من محاكاته لمشاريع الهيمنة بحد ذاتها، التي بدأت مع القراءة الاستشراقية التي رافقت العصور الكولونيالية.
وقد اختار جوزيف مسعد الكثير من النماذج الأدبية لدراسة تأثيراتها في تشكيل مفهوم الجنسانية والمثلية الجنسية في الثقافة العربية في العقود الأخيرة (التي تستعرض رؤية العرب لأنفسهم وعلى تصنيفاتهم للبشر اعتماداً على التصنيفات الغربية)، وتأثيرها على التحولات والتطورات الحالية في ظل ما آلت إليه دعوات الجندرية المعاصرة “الأممية المثلية” في التعاطي مع الجنسانية، في مقابل تصدي بعض المفكرين العرب للدفاع عن العروبة والإسلام ضد هذه النزعة الاستشراقية والموالين لها، إذ رفض بعضهم فكرة أن الظاهرة الجنسية المثلية كانت منتشرة في العصر العباسي، وحاججوا أن أبا نواس من أصول غير عربية، وأن هذه الظاهرة لم تتفش إلا مع دخول الفرس والروم في الإسلام. بينما رأى آخرون أن شعر أبي نواس والتسامح مع ظاهرة التغزّل بالغلمان، إنما هو دليل على تسامح الإسلام ورقي الحضارة العربية الإسلامية.
ففي كتابه “اشتهاء العرب” (2007)، الذي صدرت ترجمته عن دار الشروق عام 2013، وكتابه الآخر بعنوان “الإسلام في الليبراليّة” الذي صدر عام 2015، نجد جوزيف مسعد، يجد في تسويق مفهوم “المثليّة الأممية” الحالي، وتعميم الغرب له ليس سوى “إمبرياليّة ثقافيّة وماديّة أيضاً تُمارس على هذه الشعوب التي لا تخضع لنظامِ جنسانيّة غربيّ، “انطلاقاً من الزّعم بأنّ هذه الثنائيّة “هي ثنائيّة كونيّة يمكن تعميمها واستدخال الذوات فيها”. وبالتالي يتعاطى مسعد مع حجج الدّاعين إلى الأمميّة المثليّة لا عبر خطابها السياسيّ فحسب، بل على المستوى الابستمولوجيّ والأنطولوجيّ التي تحاول أن تعمّمه وتعيد تعريف ذواتٍ لا تعرّف نفسها داخل هويّات من هذا النّوع”.
ويرى مسعد أن الأممية المثلية عملت على إنتاج نوعين من الأدبيات التي تتناول العالم الإسلامي: أدبيات أكاديمية أنتجها أوروبيون لتفسير المثلية الجنسية عند العرب، وأخرى هي تقارير صحفية عن أوجه حياة المثليين والمثليات في العالم العربي. فالأولى تسعى من وجهة نظره إلى إزالة الغموض عن الإسلام لدى القارئ الغربي، والأخرى تسعى إلى تقديم معلومات للمثليين “البيض” من أجل تحرير نظرائهم من العرب.