د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
قالت صديقتي للبائع من خلال دموعها التي تغرق وجنتيها بدون أن تعرف حقاً سبباً لذلك: “أريد أن أشتري قلماً”. أعطاها قلماً وابتسامة ونظرة فيها الكثير من الحيرة والتعاطف. ابتسمت صديقتي وهي تأخذ القلم الذي كان ثمنه 2 يورو. احتفظت به بقوة وكأنها تمسك كنزاً ثميناً، إنه القلم الذي ستخط فيه أولى الكلمات في حياتها الجديدة.
نظرياً احتاجت صديقتي لسنوات عديدة لتأخذ قرارها النهائي بوأد شخصيتها القديمة لتخلق من رمادها شخصيةً أخرى تتماشى أكثر مع ظروف حياتها الجديدة. وفعلياَ احتاج الأمر لتسعة أشهر بالضبط لكي يتم إعادة خلقها.
لم تخرج يوماَ صديقتي دون أن يكون هناك قلمٌ واحدٌ على الأقل في محفظتها. ولكن اليوم ولأول مرة في حياتها، اكتشفت أنها نسيت أن تضع قلماً في محفظة يدها. وهكذا فقد قُدِّر لصديقتي أن تخط قصة حياتها الجديدة بقلم لا يمت إلى الماضي بأية صلة.
وكأنه كتب عليها أن تنسى –في هذا اليوم بالذات- أقلامها التي نجحت في إنقاذها من حياة سابقة. نعم لا تعجبو.. فمن بين ما أنقذته صديقتي كان هناك بعض الأقلام، دفتر تلفوناتها القديم، وكثير كثير من الذكريات الشخصية والمهنية اختصرتها كلها في 3 مفاتيح لتخزين الذاكرة.
في ذلك اليوم استيقظت صديقتي من نومها مبكراً، لا أدري إن كان استخدام فعل” استيقظت” مناسباً في حالتها هنا لأنها ليست متأكدة أنها نامت فعلاً. كانت ليلةً قد أمضتها بالتفكير واستحضار ذكريات غائبة وتوقعات مجهولة الزمان والمكان، ليلةً أمضتها بحالة أشبه ما تكون بالهذيان، بين الوعي واللاوعي، بين اليقظة والغفوة، ولكن الشيء الوحيد الذي كانت متيقنة منه أنها كانت تبكي.
كانت صديقتي تؤمن جداً بالإشارات، وقد تأكدت أن بكاءها ليلاَ، يشكل مفتاح باب حياتها الجديدة. وهكذا وصلتها الإشارة الأولى التي ستبدأ بها يومها.
ها هي صديقتي في القطار الذي سيوصلها إلى بر الأمان الذي كانت تبحث عنه. أخرجت أوراقها لتبدأ بالكتابة، عبثاً حاولت أن تجد قلماً ما لتدون فيه آخر لحظات تاريخ قديم و بدايات مستقبل غامض، “إنها الإشارة الثانية”، تقول صديقتي في نفسها ثم تتابع: “لا بأس، حياة جديدة وقلم جديد. سأعمل على اكتشاف مفردات أخرى أفصلها على قياس حياتي”.
تحت المطر الغزير في هذه المدينة التي شهدت آخر لحظات عمرها الأول وعاشت معها تفاصيل تكوين جديد، رفعت صديقتي رأسها أثناء جريها لتستلم الرسالة المنتظرة، لترى طفلةً صغيرة تقف أمامها وهي تضحك. حسناَ إنها الإشارة الثالثة، سأحصل على شهادة ميلاد جديدة، سأحقق آخر حلم في حياتي.
لحظات قصيرة -وإن كانت صديقتي قد اعتقدتها عمراً بأكمله- استغرقتها لتفتح المغلف وتخرج الرسالة وتقرأها مرة ورابعة وعاشرة وربما عشرون، عبثاَ استطاعت صديقتي أن تستوعب الكلمات أمامها، وأن تربط الأحرف فيما بينها، ثلاث جمل بسيطة كافية لأي إنسان أن يقرأها لينجو من ضياع ما أو حتى لينقذ نفسه من نفسه. بعد جهد استطاعت أن تستعيد قواها اللغوية وقدرتها على إعطاء معنى للعبارات التي كانت تقرأها.
ابتسمت، بل سمعت دوي ضحكة بلهاء تخرج من حلقها، كانت تسمع صوت ضحك هستيري، عاجز عن التعبير عن فرح أو حزن، فقدت صديقتي إحساسها، وهذا شيء طبيعي فقد بدأت مشاعرها تفقد الوعي وتموت تدريجيا لتخرج من رحم هذه الضحكة وتُبعث إنسانة جديدة.
بدأت حياتها الجديدة بنوبة بكاء هستيرية، جعلت من حولها ينظرون إليها بتعجب. نظرت إليهم وقالت: “لا.. لم يمت لي أحد… أنا متُّ وأنا عشت “.
خرجت صديقتي من مركز البريد لتستقبلها امرأة مسنة تجلس على الرصيف وتمد بيدها بكأس فارغة تطلب فيها من المارين ما يسد رمق يومها. لم تشعر صديقتي بنفسها وهي تخرج من محفظتها ورقة نقدية كبيرة وتعطيها للمرأة الفقيرة، التي تعجبت من هذا المبلغ الذي سقط في كأسها وبدأت تتفوه بعبارات شكر. جلست صديقتي على الرصيف بجانب المرأة وغطت وجهها بيديها الباردتين وانخرطت في البكاء بصوت عالي. بكت صديقتي لنفسها وعلى نفسها، بكت على كل إنسان يشعر بالظلم والقهر. بكت على حزن الإنسانية حتى ارتفع منسسوب هذا الحزن في تلك المدينة، بل في كل البلاد.
وهكذا ودعت صديقتي حياة كانت حياتها، لملمت اضطرابها وحملته معها. بدت لها نفسها غريبةً عنها، ومع ذلك تابعت المسير. انفرجت أساريرها بابتسامة لم تستخدمها منذ وقت طويل. عاشت اللحظات التي يقف فيها الوطن على حافة المنفى، تذوقت طعمه في جرعات متتالية حتى يظل محفوراً على لسانها. تنشقت رائحة ترابه التي وصلتها بالرغم من المسافات الطويلة التي تفصلها عن أرضه، وكتمتها في أنفاسها حتى تحتفظ بهذه الرائحة في داخلها حتى مماتها.
أخذت صديقتي نفساَ عميقاَ وصرخت في أعماقها التي لا يسمعها أحد غيرها وقالت: ” لنتابع المسير “.
مواد أخرى للكاتبة:
زاوية يوميات مهاجرة 7 وماذا بعد؟؟
زاوية يوميات مهاجرة 6: إدمان..
زاوية يوميات مهاجرة 5: سأروي حكايتي