د. نعمت أتاسي. خلال 55 يوماً من الحجر، تخلت باريس مرغمة عن مظهرها القديم وارتدت حلة جديدة غير معروفة، ليس فقط من قبل السائحين وإنما من قبل الفرنسيين أنفسهم.
لم يكن سكان باريس يدركون خطورة الحالة الصحية نتيجة الانتشار المخيف لفيروس الكورونا. وربما كانوا على ثقة بأنه لن يتجرأ على تجاوز حدودهم، وإن حصل ذلك فبفضل تطورهم وتقدم نظامهم الصحي سيتغلبون عليه. ولذلك فقط استغلوا فرصة الطقس الجميل لكي ينتشروا في الحدائق وعلى ضفاف نهر السين ليتمتعوا بالشمس الدافئة.
نظراً لتسارع الأمور أعلنت الحكومة الفرنسية الحجر الكامل في محاولة منها لتفادي الكارثة. سكان باريس الذين يعشقون حريتهم اضطروا للانصياع للأوامر ولسان حالهم يقول: “مرغم أخاك لا بطل”. لم يتوقع أحد الازدياد المخيف لشهيتهم لكل شيء. فقد ازدادت شهيتهم للطعام والشراب وبالتالي الطبخ. وبدأ المواطن الباريسي الذي كان صحنه المفضل هو قطعة اللحمة والبطاطا المقلية معها (Steake Frites)، يتفنن بأمور الطبخ والعجن والخبز.
وليس كاذباً من يكتب على ورقة أذن الخروج أنه يريد شراءBaguette مرتين يومياً: ففي الأيام العادية، كان من المستحيل أن تشتري الباكيت وتعود بها كاملة إلى البيت، فلا بد أن تأكل منها ولو قطعة صغيرة مهما كان نظام الحمية الذي تتبعه صارماً. ولا عجب إن سمحت الحكومة لمخازن بيع المشروبات ( نيكولاس) بأن تفتح في هذا الحجر الصارم شأنها مثل بقية مخازن الطعام الأساسية.
تستطيع الجزم بالتواطؤ المعلن بين الحجر الصحي والطقس الذي ازداد دفئاً، حيث برزت الشمس لتغري الباريسي الذي يعشقها بالخروج رغم أنف الحكومة والكورونا. وبخيانة الربيع الذي استغل فرصة حجر سكان باريس وبدأ زيارته لمدينتهم متمهلاً لا مستعجلاً كعادته، وكأنه وجد الزمان والمكان المناسبين لاستقراره.
أما نحن الذين نعيش تحت وطأة المؤامرة الكبرى، فقد اقتصر نشاطنا على مراقبة الربيع الخائن من نوافذ منازلنا، أو بالنسبة للمحظوظين منا من يملك حديقة أو حتى شرفة صغيرة. وعندما كنا نشعر أن أطرافنا تيبست من عدم الحركة وأنفاسنا تثاقلت لدرجة الانقطاع فقد كنا نعبئ استمارة طويلة لشرح سبب خروجنا للتمتع بهذه اللحظات الربيعية الساحرة.
لم تعش باريس قبلاً مثل هذه الأوقات من السكون والجو النقي، أسطح الأبنية ومداخنها باتت تّرى بوضوح، قبب الكنائس لمعت بوهج ساحر، أما برج إيفل فكأنه غسل وفرك ولمُع بأطنان من الصابون. مياه نهر السين بدت صافية كالمرآة السحرية وغلب على شوارع باريس لون أخضر سرمدي لا مثيل له.
أما جسور باريس التي تربط الضفتين، فقد امتدت بوضوح على مرمى البصر ولمعت فوقها الأقفال التي علقها العاشقون لتخليد حبهم. ساحة التروكاديرو التي كانت تعج بالسياح والباعة المتجولين، بدت شاحبة لا حركة فيها ولا إنسان يتجاوزها، إلا من يريد أن يوثق هذه اللحظات النادرة بصور يأخذها من جواله. إن صادف وقابلت شخصاً آخر على نفس الرصيف فسيحاول الابتعاد عنك مسافة مترين أو أكثر ولا بأس أن يمشي في منتصف الطريق وكأن صاعقة ستضربنا في حال مشينا على نفس الرصيف.
جادات باريس تغير طعمها وأصبحت تراها بطريقة جديدة، أو بالأحرى بدأت تراها فعلاُ، بعد أن كنت تتجاوزها وتنظر إليها بدون أن تراها.وهكذا بدأنا نرى جمال الشجر وروعة الممرات المحاطة بالأزهار التي مررنا فيها مئات المرات ولم نشعر بجمالها. هذه هي الكلمة المناسبة لوصف حالتنا، بدأنا نشعر بالجمال حولنا وأيضا داخلنا. تسلل الحب إلى قلوبنا، من لم يسأل عن جار عجوز له ليطمئن على صحته ويعرض عليه خدماته؟ من لم يفكر بمعارفه البعيدة حتى للدرجة العاشرة ويسأل عنهم؟ من لم يخطر على باله تقديم أي أنواع المساعدة وتقاسم مهاراته سواء في الطبخ، الموسيقى، الرياضة وحتى الخياطة؟
التغيير أصاب سكان باريس أيضاً، فلم تعد باريس عاصمة الجمال والأناقة. لن ترى أمامك النساء الجميلات يتباهين بقصة الشعر الفرنسية الشهيرة à La garçon، أو يتبخترن بفساتين قصيرة أنيقة وكعب عال يظهر مفاتنهن. وإنما تراهن الآن منتعلات أحذية رياضية أو أثواب فضفاضة تظهر تماماً أن صاحبتها لا ترتدي حمالة الصدر. ناهيك عن الشعر الأبيض الذي غزا مفارق الرأس وتدرجت بعده ألوان الشعر المختلفة من أشقر إلى بني غامق وحتى أسود. أما الماكياج وحمرة الشفاه فوجودهما لا داع له مع الماسك الذي يغطي نصف الوجه.
علينا حاليا متابعة الحياة التي سندعي أنها طبيعية، وبالانتظار لنخرج ونرى الجمال حولنا: سواء في حديقة صغيرة، في اسم شارع لم يكن يلفت انتباهنا. في ذلك الرجل المسن الذي يمسك يد زوجته من خلال القفازات وبيده كيس التسوق، في ضحكة الطفلة التي تلعب بسعادة، في وجه الفتاة التي تجري للحفاظ على رشاقتها بانتظار الموعد مع الحبيب.
ولنبتسم للحياة حتى لو غطى الماسك ابتسامتنا، فللعيون لغة تخترق كل الحواجز.
د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
اقرأ/ي أيضاً:
زاوية يوميات مهاجرة 16. لعنة أم نعمة؟
زاوية يوميات مهاجرة 15: شجرة أمام نافذتي
زاوية يوميات مهاجرة 14: طابور الحياة…