د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
في حياتها الجديدة، اعتادت صديقتي أن تقفز من سريرها كل صباح لتراقب تطور نمو أوراق الشجرة التي تطل عليها من نافذة غرفتها. وكم كانت خيبتها قوية عند رؤيتها أن هذه الأوراق في نمو مستمر ولا تتوقف عند حد معين، فهي ما زالت تكبر لتظهر البراعم ثم الأزهار لتصفر وتتساقط من جديد.
دورة الحياة هذه تتكرر منذ سنوات لا تعرف إن كانت طويلة أم لا، فقد فقدت قدرتها على العدّ مع فقدانها لأشياء أخرى. كانت تتمنى أن تبقى أوراق الشجرة على حالها دون تغيير، وكأنها في قرارة نفسها تريد التشبث بشيءٍ ما ثابت، مع أنها والحق يقال، حاولت جاهدةً أن تؤقلم نفسها مع كل التغيرات التي طرأت على حياتها منذ اللحظة التي غادرت فيها وطنها.
تعتقد صديقتي أن الشجرة التي كانت أمام نافذتها في حياتها الماضية لم تكن تتغير أبداً، فأوراقها الخضراء ثابتة لا تتحول، لا تكبر ولا تتساقط شتاء. وكأن الزمن نسي شجرتها ومدينتها الصغيرة على حافته ولم يعد يتذكرها.
اختلط مفهوما الـ “هنا” والـ “هناك” في ذهنها ليأخذ كل واحد منهما مكان الآخر؛ أول ما يتبادر لها أن “هنا” هو الوطن و”هناك” ما هو خارجه. وحتى الآن يأبى كل مفهوم أن يأخذ مكانه الطبيعي. ولذلك فهي تفضل أن تستخدم صيغة الزمان بدلاُ من المكان.
فيما مضى كانت صديقتي، من نافذتها، تحيي جارتها -التي لم تستطع طوال سنوات عديدة أن تحدد عمرها- لأنها لم ترها يوماً بدون ثياب الصلاة البيضاء التي كانت ترتديها طوال الوقت لتخرج إلى شرفتها لنشر الغسيل أو لتنادي لأطفالها الذين يلعبون أمام المنزل، أو لتتكلم مع جارتها في البناء المقابل. كما كانت تستطلع تحركات صديقاتها وأصدقائها من خلال مرور سياراتهم أمام نافذتها. ها هو جارها يغادر منزله متجهاً إلى عمله. وهاهي صديقتها تمر أمامها في مشوارها الصباحي الرياضي. أما صهريج المازوت فكانت تسمع ضجته قبل أن تمد برأسها من النافذة لتعرف أياً من جيرانها يملأ خزانه.
تغير الوضع مع بدء الثورة، أصبحت ترى من نافذتها دوريات المخابرات في مداهماتها للحي، وبعض تحركات أفراد الجيش الحر. فيما بعد كانت ترى من شق النافذة الصغير دخان الانفجارات التي تهز المدينة لتتعرف على مكانها. وآخر ما كانت تراه هو جنود النظام وهم يهاجمون المنازل الفارغة لينهبوا كل شيء.
الآن لا تستطيع صديقتي أن تتعرف على أصحاب السيارات المارة أمام نافذتها، فهم متشابهون بملامحهم الغامضة والمجهولة. جيرانها في البناء والشارع شبه غائبون وكأن تحركاتهم سرية. بعد عدة سنوات استطاعت -وبفرح- رؤية جارتها وهي تهرول في الدخول والخروج من سيارتها المركونة أمام البناء. أكثر ما تراه من نافذتها هو أوتوبيسات السياحة الحمراء وعلى متنها السياح الصينيون الذين يصورون ببرود معالم هذه المدينة الكبيرة.
تفتقر ساحة التروكاديرو التي تطل نافذتها عليها لأي طابع حميمي ودافئ، تجتاحها موجاتٌ من السياح، يظهرون فجأة من محطات المترو. ويفترش أرضها بائعو المنتجات السياحية الملونة من مجسمات مختلفة القياسات لبرج إيفل إلى أنواع القبعات والشالات والحقائب. مقاهي الرصيف تملأ نواصيها وتعج بالسياح الذين يتهافتون لتناول أطباق الطعام التي لا طعم لها ولا مذاق ولا حتى اسم.
قد تكون كثرة السياح أفقدتها روحها الباريسية الحقيقية لتحولها إلى مجرد استديو للتصوير، فهنا ترى العروس بثوبها الأبيض عاري الكتفين رغم البرد، تجري لتوثق أسعد أيام حياتها بصورة يظهر فيها برج إيفل بين يديها على شكل قلب.
شعرت صديقتي بسعادة غارمة تجتاحها عندما تأكدت، بعد مراقبة استمرت لعدة أسابيع، من المرور اليومي لرجلٍ متقدم في السن حاملاً معه علبة قيثارته، وجدت نفسها تخلق قصة حياة هذا الموسيقي بقبعته ومعطفه الأسود الطويل صيف شتاء، يمشي منحني الظهر ليصل إلى المطعم حيث يعمل، ليعزف ألحان سعادة مفتقدة لسياح مازالوا يعتقدون بهذه الأسطورة.
تراقب صديقتي الرجل في مشواره اليومي، وتعود بذاكرتها لنافذة حياتها القديمة حين لمحت ذات يوم بارد أحد عناصر الجيش الحر المتمركز في حيّها، كان شاباً صغيراً في عمر ابنها يرتدي قميصاً بأكمام قصيرة. تتذكر أنها أسرعت لخزانة ثياب ابنها لتأخذ سترة سميكة وتنزل بها إلى الشارع لتعطيها للشاب الشجاع علُها تشعره ببعض الدفء. شعرت صديقتي الآن ببعض الدفء في داخلها بعد أن استطاعت أن تخلق بعض التقاطعات ما بين حياتين سابقة وحاضرة.
يوميات أُخرى:
زاوية يوميات مهاجرة 14: طابور الحياة…
زاوية يوميات مهاجرة 13: باريس وأبوابها السبعون …!
زاوية يوميات مهاجرة 12: للمنفى قصص تطول…!