زاوية شهرية يكتبها بطرس المعري*
تبدأ هذا الشهر الاحتفالات بعيدي الميلاد ورأس السنة، فتتزين مراكز المدن الألمانية والغربية عموماً وأحياؤها الكبيرة بـ “أسواق الميلاد”، كما تتلألأ الشوارع والمتاجر بالأضواء وبالشجرة الشهيرة بكراتها البراقة وبشخص بابا نويل.
منا من اعتاد هذه المظاهر وأحبها، ومنا من وجد فيها إسرافاً وابتعاداً عن قيم البساطة التي عاشها صاحب العيد الحقيقي، السيد المسيح، فصار الأمر بالنسبة إليه مناسبة للتبرم.
وقبل هذا العيد، عيّد(نا) مع الغرب عيد الهالوين، وقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي هجوما كبيراً على طقوسه، على اعتباره أنه يحتفل بالموت والأكفان وبالأشباح والشياطين، كما اعتبره البعض كفراً أو ابتعاداً عن التدين.
في الحقيقة هناك شيء من الصحة في كل هذا، لكن ما يزعجنا بالفعل، ليس الأمر الديني على أهميته بالنسبة لمجتمعاتنا، بل هو كمّ البذخ والإسراف في هذه المناسبات، أو لنقل كم التجارة التي تروج خلاله. يقول أحد الأصدقاء إنه “ضد استيراد الأعياد الغريبة عن ثقافتنا”، بل هو مع أعياد الناس الأصيلة الشعبية التي تجمعهم وتسعدهم مهما كانت إمكانياتهم المادية متواضعة.
ولكننا لا نستطيع أن نتّهم الغربي فقط بالإسراف، طالما يسرف الميسورون من أبناء جلدتنا أيضاً في أعيادهم كما الغربي وربما أكثر. كذلك لا يمكننا أن ننكر أن الأفكار الاستهلاكية قد غزت مجتمعاتنا، فصرنا نهتم بالطقوس أو الاحتفالات المدنية والمادية أكثر مما نهتم بقيم الأعياد وجوهرها. ونحن إن وجدنا هنا في الغرب هذه المظاهر أقوى وأوضح، فذلك مرده كما نعرف جميعاً إلى غنى البلاد بأغلب أهلها، وبالطبع هذا الغنى هو من نتائج العمل الجاد لا الكسل والفساد!
كنت كغيري من الشرقيين، لا أكترث للأعياد المستوردة على قول صديقنا، وهذا الهالوين لم أحبه من أول لقاء معه جرى في باريس قبل أكثر من عقدين من الزمن. لكن في هذا السنة جرى أمر بسيط جعلني أتأمل قليلاً في الأمور وأراجع نفسي.
فقد سمعت مساء يوم الهالوين جرس مرسمي يرن، وكنت أتوقع قدوم صديق، فاستغربت أنه قد أتى من دون أن يؤكد حضوره هاتفياً كعادته. ضغطت على زر المفتاح كي يفتح باب البناء الخارجي لكنه لم يفتح، فخرجت لافتحه بنفسي وإذا بي أقف قبالة “وحشين” صغيرين يلوحان من وراء الزجاج ففتحت مبتسماً. قالا لي شيئاً ما لم أفهمه، ولكني عرفت أنهما يعايدان عليّ بالهالوين. تذكرت حينها كيف أن ابني قبل بضعة سنوات قد أتى إلى المنزل ووجهه مطلي بالدهان الأسود ومعه أنواع شتى من الحلوى، فرحبت بهما وعدت إلى المرسم ليتبعاني ويقفان على الباب. دخلت إلى المطبخ حائرا، ما هذه الورطة! ورحت أبحث عما لدي من أطايب، لكن للأسف لم أجد غير الموز وثلاث قطع صغيرة من الشوكولاته، فجمعتها في كيس وقلت لهم هذا ما عندي، فتناولاه وتشكرا لطفي! وأغلقت الباب سعيداً بهذه المفاجأة.
وتخيّلت أن ابني كان أحدهما، كما تخيلت كيف سيتقاسم الولدان قطع الشوكولاته. هما لا الشيطان ولا صاحب الكفن. والأمور لا تقاس دائماً بالابتعاد أو الاقتراب الظاهر عن/من القيم الدينية.
*فنان وكاتب سوري مقيم في ألمانيا
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً للكاتب: