تغريد دواس.
أنتَ لا تعرف دمشق، قد تصيبكَ الدهشة لأنّي أعرف عن دمشقَ كثيرًا وأنا مازلتُ في الثالثة والعشرين، أنا دمشقية، واسمي تغريد، كلّ امرأة في دمشق تعرف معنى أن تنقر قدمها بالتراب، أن ترقص النقري بكعبها القصير تحت سماء دمشق. لم أعرف تفاصيل دمشقَ كلّها لأنني صغيرة، لكن في دمشقَ لا فرق بين عجوز في الثمانين وفتاة في العشرين، الدمشقيات يعرفنَ مدينتهنّ كما لو أنهنّ يسكنَّها وتسكنهنّ منذ الأزل.
يا صديقي، أن تكتب عن دمشق يعني أن يأتيك الفرح من حيث لا تدري، من جملة، من إيماءة، من ضحكة، من ذكرى، أن تُحب دمشقَ، يعني أن يصير قلبك ياسمينة فجأة يلقي السلام على المارة، في دمشقَ؛ تمشي ويمشي ظلك خلفك على مهلٍ، يُلقي التحيّة على بسطة كُتب، يتوقف ليأكل الفول على عربة عجوز، يتعب فيقطع خلوة عاشقين على مقعد خشبي بحديقة ما.
في دمشقَ يتوقف ظلّك قبلك فيعطي شرطي المرور 25 ليرة ويفتح لكَ الطريق فتضحكون ثلاث ضحكات، في دمشقَ يبتسم قلبك دون قصد من دعوة شحاذ لكَ بالصبي، من رائحة القهوة المتسربة من الشبابيك الصغيرة، في دمشقَ لكل شباك مذاق، كانت رائحة الثوم المقلي من نصيب شباكي دائمًا، في دمشقَ كل البيوت مفتوحة على كل البيوت، كل الأسرار تتفشى في السهرات، في أحاديث النساء، على الأبواب، في دمشقَ لا تجوع، يُطرقَ بابكَ بالعشاء كل يوم (سُكبة) تنسى صحون الجيران في مطبخك، تسهو عن صحن (إم محمد) وصحن (إم إلياس)، في دمشقَ تنزل سبعُ درجات أو عشر، تقف على باب البقالة، تعبئ كيسًا من كل شيء، تأخذ علبة سجائرك، تسلم على (أب مروان) فيفهم أنه سيفتح دفتر الدَين!
في دمشق تمشي أو تهرول، تغني أو تلعن، تصلي أو ترقص، تجر قدميكَ بثقل الدين أو تطير بلا هم، هناك أنتَ دمشقيّ ولو كنت من الصومال.
في دمشقَ، لا يُزعجك الانتظار الطويل في الشوارع، تقف، تستمع لما يختاره صاحب محل الأغاني من أغانٍ لا تعرفها، تستنشق العطر الذي تتركه الجميلات خلفهن في الهواء، تعير سمعك لحديث مرّ بجانبك، لا يزعجك الانتظار في دمشقَ، تقرأ كل الإعلانات الملصقة على الحيطان، تترحم على فقيد مرت جنازته ولا تعرفه، تشتمّ رائحة القهوة المحمصة، صوت الباعة، زمامير السيارات كل هذا يجعل من انتظارك متعةً حقيقية.
أن تكتب عن دمشق حيث أنت لا شيء وأنت كلّ شيء! تشبه كلّ الناس، والكل يشبهك تحتفظ بتحياتهم على وجهك، تعرف كلّ الناس وكل الناس يعرفونك، تهيئ ابتسامتك قبل أن تقابل أي أحد.
في دمشقَ تغيّر طريقك مسرعًا كي لا يراك صاحب الدكان ويطالبك بتسديد الدَين، ثم تصل بيتك تضحك محققًا انتصارًا بالتخفي، كل طريق تمشيه في دمشق يساعدك على حمل حقائب الهموم، كل حجرة في دمشق تمتلك ألف سر وألف ضحكة وألف هم “حجارة الشام تتكلم وتحلم وتنام”.
تمشي الصبايا بخفة الحمام، الصبايا يكذبنَ في دمشقَ يخبئن كذباتهن في الجيوب، كذباتٍ بيضاء صغيرة، يخبئن الورود والدباديب في قلوبهنّ، وينثرنَ الحب على المقاعد وطاولات المقاهي، ثم يَعُدنَ محمرات الخدود محتفظات بعطر الأيادي.
كل صبايا الشام جميلات، جميلات عندما يخلعن عباءة الأنوثة ويرتدين (الشفترة)، أنت لا تعرف الشفترة هي صيغة حديث مغرية تمتاز بها إناث بلادي سأحدثك بها عندما تتعلم العربية!
في دمشق كل التناقضات تحيا، كل التفاصيل مثيرة لأن أقصّها عليك، أن أكتبها لكَ، موت/ ولادة، ثراء/ فقر، جوع/ شبع، موظف يقبل الرشوة/ موظف لا يقبل، شعراء/ أميّون، فنانون باعة، مجانين عقلاء، أطباء، مهندسون وحشاشة!
هل تعرف الحشاشة؟ نصفهم أصدقائي جميلون جدًا، يشبهون أشجار العنب الأحمر بوقوفها وميلانها وضياعها. في دمشق يُحرجك شيخ جامع يسحبك للصلاة، فتصلي دون وضوء، وتقتنع بصحة الصلاة، “بتمشي الحيط الحيط وبتقول يارب السترة، وبكل حيط إلك ذكرى”، في دمشق يتبادلون القبل سرًا في مداخل الأبنية العتيقة بعتمة الزواريب، تتبهدلُ فجأة من عجوز، فتهرب وأنت تضحك!
في دمشق لا تتوقف عن الابتسام ولا عن الضحك أبدًا، يضربك أستاذ المدرسة، تضحك، يؤنّبك والدك، تضحك، ترميك أمك بالشحاطة البلاستيكية، تضحك، كل الأشياء تنتهي بضحكة، لأنك في دمشق، “في دمشق لا ينام الغريب على ظله واقفًا” إنما يجلس وظله على مقهى يسمع (إم كلثوم) ويشرب قهوة، يرمي النرد، فيطول عمره عمرًا.
صديقي، أنتَ يا من لا تتكلم العربية، في دمشق يتجمّع الصِّبية حول الغرباء، يحتفلون بهم ككائنات أخرى، يشكلون دائرة ويدورون حولهم يحملونهم من الروتين للفرح، في دمشقَ لا نشتري القطط إنما نربي قطط الشوارع، يأكلون مثلنا يبحثون عن طعامهم من طعامنا، يصطفون بالدور على أبواب اللحامين، ياخذون نصيبهم ويختبئون تحت السيارات، في دمشق قبل أن نركب السيارة نضربها كي تخرج القطة من المحرك، نرش الخبز اليابس للحمام والعصافير على حافات الشبابيك، في دمشق كل الأشياء تصلح بأن اكتب لكَ عنها وأغلفها، رسائل رسائل.. أخافُ أنك لا تفهمني، في دمشق تفهم كل الوجوه دون لغات، دون الحاجة للغة تستطيع فك شيفرات التجاعيد بسهولة، تلامس الهموم، الهموم التي تنتهي بأن ينتهي الراتب مع نهاية الشهر، وأن يأتي الشتاء دافئًا ولا يرتفع سعر كيلو البندورة 5 ليرات دفعة واحدة!
في دمشقَ، لا نعرف الدولار ولا اليورو، و(الخضرجي) تحت بيتي يسمّي الدولار (دورار)، في دمشقَ تخبئ النساء ثمن طعامهنّ وملابسهنّ ليزوجن أبنائهنّ البكر، لا تنتهي الأعياد في دمشقَ، نحتفل في كل الأعياد، نحتفل بعيد الفطر، بالأضحى، برأس السنة، بالميلاد المجيد، بالمولد النبوي الشريف، بعيد الفصح، بعيد الحب، بعيد الأم، بعيد المعلم، بعيد الشجرة، عندما يرجع الحجاج، قبل يوم من زفاف شاب من الحارة، يوم زفافه، طهور ابن أبو باسل، يوم نجاح بنت أم محمد، نزيّن الحارة، نضيئها، نقف على الشبابيك نتفرج، نغلي الشاي نوزع كاسات الكازوز وننام مبتسمين..
في الشام لا أنام على سرير، لا أملك سريرًا، نلصق فراشنا، والتصق بأخوتي ونثرثر حتى تقوم أمي وتوقف صوبية المازوت وتنهرنا لننام . في دمشقَ كل الحارة من أهل البيت، بيّاع الفيجة من أهل البيت.
أخافُ انّكَ لا تفهمني!! انظّر إليّ، إلى حرفي، ألا تجد الدفء يخرج من هنا، لستَ بحاجة للغة.. في دمشقَ يطير الكلام، كل الكلام كل الأبجديات تنتهي بدعوة عجوز تخرج عن ظهر حب.
اقرأ/ي أيضاً:
الأذان الجماعي في الجامع الأموي في دمشق.. تقليدٌ متوارث لا مثيل له في العالم كله
العسكريفوبيا.. كوابيس ناجي في دمشق
يوم دمشقي..
من دمشق