كفاح علي ديب
عطش، عطش، جفاف يشقق الحلْقَ، ما من ماء على طول الطريق. ساقايّ لم تعودا تقويان على حمل الجسد الذي أنهكه العطش.تذكّرت أن بئراً كان في آخر الشارع حيث اليوم تتكوّم أبنيتُهُ ركاماً فوقَهُ. رحت أزحف على بطني وأئن مثل كلب جيراني الذي أصيب بطلق ناري في فخذه، ولم يجدِ معَهُ أيُّ علاج سوى رصاصةُ الرّحمة. تابعت الزحف حتى وصلت إلى موقع البئر. في هذا المكان ما من أحد يطلقُ رصاصَ رحمة.
قرب البئر، كان طفل يراقب المكان بعينه الوحيدة، وغير بعيد عنه كان أطفال آخرون، عشرة وربما أكثر لا أطراف كاملة لأيّ منهم. مكثت أراقب الأطفال للحظات، كانوا يخوضون في الطين الذي ملأ البئر، ويصنعون كرات بحجم قبضاتهم الصغيرة، يعتصرون منها الماء فوق شفاههم المشققة ثم يرمونها خارج البئر.
شهقت، وأنا أكتشف أنّ العطش شلّ صوتي، انتبه الأطفال إليّ، فتهامسوا ثم غاصوا في الوحل من جديد. أخذت قبضة وحل لأعتصر ماءه وأسكت عطشي، وما أن هممت برفع الوحل إلى فمي حتى رأيت عيناً في قعر يدي، عيناً تتربّص بي. من هول الخوف فتحت عيني على اتساعهما، لأكتشف أني نسيت إطفاء النور في غرفتي قبل أن أنام، كما نسيت وضع كأس الماء بجانب السرير.
يا له من كابوس! ذهبت إلى المطبخ قاصدة الماء. فتحت الصنبور، صوت صفير الهواء المندفع منه مثل طلقة كاد يصمّني، فسارعت وأغلقتها وأنا أتلفت حولي وأتمتم: أنا في برلين، أنا في برلين، والماء لا ينقطع هنا، مثلما ينقطع هناك في سوريا، ما الذي يحدث؟! أعدت فتح الصنبور، لكن لم يخرج منه سوى صفير الهواء محمّلاً بالصدأ.
تناهى إلى مسمعي أصوات ما في الخارج، تردّدت قبل أن أفتح النافذة وأطلّ إلى الشارع، كان هناك دبابة وجنود يرطنون بلغة غريبة، وهم يتلفّتون حولهم بطريقة مثيرة للشكّ، أحدهم رفع رأسه فرآني، خفت فأغلقت النافذة، ثم أخذت أصصاً فارغة ووضعتها خلف الزجاج، وأنا أفكر أنهم حين يرون الأصص الفارغة سيعتقدون أنه ما من أحد في البيت! يا لسذاجة الفكرة!
وقع أقدام على الدرج، لابدّ أنهم الجنود أنفسهم هم القادمون، ما كان عليّ أن أفتح النافذة. أخذت أدور حول نفسي وأنا أتمتم: أنا في برلين، أنا في برلين، لا حرب هنا، يجب أن أتصل بالشرطة، أين هاتفي الجوّال؟ لا أتذكّر أين وضعته.
يمكنني أن أخرج إلى الشرفة وأصرخ، سيسمعني الجيران ويطلبون لي النجدة. إنّها فكرة جيدة. هُرِعت إلى الشرفة وهممت بالصراخ، لكن العطش كان قد قطع حبالي الصوتيّة.
عدت إلى الداخل، أطفأت الأنوار كلّها، واقتربت من الباب أنصت لاقتراب وقع أقدامهم، سمعتهم يتهامسون بلغتهم الغريبة. دببت على أربع وعدت باتجاه السرير وأنا أفكر: إذا كسروا الباب ودخلوا سأتظاهر أنّني ميتة، حينها سيتركونني وشأني ويبحثون عن ضحية أخرى. ارتحت لهذه الفكرة، فتمدّدت على السرير وأغمضت عينيّ، وحبست أنفاسي.
ثمّ ساد السكون، فتحت عينيّ من جديد، كان ضوء الشمس يملأ الغرفة، والهاتف يرنّ، كأس الماء مليئة بجانب السرير! كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحاً. يا إلهي! لقد تأخرت عن العمل.