أنيس حمدون، كاتب ومخرج مسرحي سوري من حمص من مواليد 1985، درس المسرح في المسرح العمالي في سوريا، ودرس الكيمياء في الجامعة، ونشأ في عائلة مثقفة مهتمة بالمسرح، فهو ابن الممثلة السورية سعاد بلبل، وحفيد الكاتب المسرحي السوري فرحان بلبل. كما أن والده صبحي حمدون كان مهندسًا، فتح له مكتبته فأدمن أنيس على القراءة.
خاص أبواب
لنتحدث قليلاً في البدايات:
“المسرح هو الحياة، كانت أمي تمثّل وهي حبلى وأنا في أحشائها، تعلمتُ الكلام من المسرح، والقراءةَ من النصوص المسرحية، كان عمري عشر سنوات حين قرأت مجموعة أعمال تشيخوف القصصية كاملة، أدمنت القراءة من مكتبة والدي الذي فتحها لي”، قال أنيس الذي يعيش مع زوجته زينب في مدينة أوسنابروك الألمانية حاليًا، ويعمل فيها، وتابع: “في عمر مبكر (14 سنة)، عرفت أن المسرح هو الهدف، وبدأت أكتب، وكنت أذهب إلى جدي الذي كان يقول لي “خرّق” أي مزّق ما كتبت! بعد فترة، تحوّل طلب تمزيق ما أكتب إلى ملاحظات وتعليقات إيجابية، في سن الثامنة عشرة دخلت في فرقة المسرح العمالي، وتلقيت تدريبات تأهيلية، ثم شاركت كممثل، لكنني لم أجد نفسي هناك، مكاني خارج الخشبة، وليس عليها”. اتجه أنيس بعدها إلى دراسة تقنيات الكتابة وضبط العروض المسرحية، وكان مراقبًا ومحللاً جيدًا، عمل بعدها مع خاله الفنان السوري نوار بلبل كمخرج مساعد حين أصبح في سن الرابعة والعشرين من عمره، يضيف: “جميع الممثلين كانوا من عمر أهلي، كنت أدرب نفسي على ضبط التدريب حين يسافر نوار، حتى أن أمي كانت ممثلة في العمل، وكنت أستطيع ملاحظة استغرابها حين أصبح ابنها فجأة يدير المهمة! بعد ذلك أصبحت أدرّس المسرح في مدارس حمص حيث حضّرت منهاجًا يعتمد على فن الحكاية وإلقائها، به يستطيع الطفل أن يتشجع ليحكي القصة على طريقة “الحكواتي” وهذا تعلمته من جدي الذي كان أستاذ مادة الإلقاء في المعهد العالي للفنون المسرحية”.
حمدون: كيف يمكن لعنصر أمن لم يقرأ في حياته غير التقارير الأمنية أن يقرر ماذا يعرض على المسرح؟
كان أنيس يفكر في إعادة العمل على مسرحية “لا ترهب حد السيف” التي كتبها جده، والتي كان يعتقد أنه وقتها، وكان يحضّر لها، حيث كانت هاجسه الذي يحكيه للجميع كما لو أنه يحكي عن ابنه، يقتبس من نصّها “كي تصبح رجلاً/ في زمن الغضب الباردْ/ لا ترهبْ حدَّ السيفْ./ كي تصبحَ إنسانًا يتحدّى ضعفَهْ/ في هذا الزمن المتراخي/ لا ترهب حد السيف./ اشمخْ./ فالذلُّ لئيمْ./ واغرِسْ في صدر الخوف وعين العارْ/ إيمانَك بالحريةْ./ فالذلُّ رجيمْ./ ولكي لا يُقهرَ فيك الإنسانْ/ لا ترهب حدَّ السيف”. كان يريد أن يعيد عرض هذه المسرحية إلّا أن “الثورة غافلتنا” يعلّق أنيس. كان أنيس ناشطًا في الحزب الشيوعي السوري، وكانت لديه آراء إشكالية داخل الحزب عن سيطرة حزب البعث على كل شيء، رغم أن الحزب الشيوعي أقدم منه، وكان يقول: “بدون حرية لا يوجد اقتصاد، ولا يوجد فكر” أصبح أنيس مسؤولاً عن شباب الحزب الشيوعي في حمص، وكان غاضبًا من كل شيء: “إذا أردت أن تعرض مسرحية في سوريا عليك أن تحصل على موافقة أمنية، كيف يمكن لعنصر أمن لا يعرف القراءة ولم يقرأ في حياته غير التقارير الأمنية ماذا يمكن أن يعرض؟ كلّ شيء كان بحاجة لثورة، بابا عمر كانت مخيفة، الفقر يسيطر على كلّ شيء، وهذه ليست قرية نائية، هي منطقة/ حي من أحياء مدينة حمص، كان طبيب أسناني في حي البياضة، وكنت أتألّم من رؤية هذا الحي أكثر من ألم طبيب الأسنان، الأطفال يبدون لاجئين وهم ليسوا كذلك، الخوف يسيطر على كل شيء، لا أحد يستطيع أن يصرخ ويقول أصلحوا هذا الشارع، لا تقطعوا الكهرباء، أوقفوا تهميش مناطقنا، لذلك، وبخط موازٍ لـ “لا ترهب حد السيف” كنت أتمنى أن تحدث الثورة، وحين بدأت في تونس، كنت أحلم بالوقت الذي سنقول فيه “بن علي هرب” فحقًا، لقد هرمنا!”.
“الله، سوريا، أستاذ المسرح”
بدأت الثورة التي انتظرها أنيس، وبمجرد أنه تضامن مع قتلى المظاهرات في درعا وبانياس، بدأت التهديدات تصله، المدرسة التي كان يدرّس فيها؛ كان طلابها في غالبيتهم أبناء ضباط ومسؤولين، حتّى أن طلاب المدرسة تجمعوا بعد خطاب (الأسد) الأول، وتجمهروا ليقتحموا مسرح المدرسة ويقتلوا “الإرهابي الخائن”! إلّا أن إدارة المدرسة حمته حينها لأن هذا العمل غير مقبول داخل حر المدرسة، وتم تهريبه من الباب الخلفي، ازدادت المشاكل في المدرسة، وبدأ الطلاب يتشاجرون، حتى أن القسم الآخر من الطلاب تظاهروا في المدرسة وهم يهتفون “الله، سوريا، أستاذ المسرح” يقول أنيس والدهشة تبدو واضحة في صوته، ويكمل: “كل هذا أجبرني على ترك المدرسة”.
مسرح المظاهرات
كان أنيس يتمنى أن تنجح الثورة خلال أيام قليلة، كما كان الحال في تونس ومصر، إلّا أن ذلك لم يحصل. شارك في المظاهرات والاعتصامات كاعتصام الساعة الشهير بالمجزرة التي حصلت هناك، وأخرج عرضًا مسرحيًا تم تمثيله وتصويره أثناء المظاهرات السلميّة في العام الأول للثورة حيث كانت المظاهرات تأخذ شكلاً كرنفاليًا يجمع بين الرقص والموسيقا والغناء، وأضيف إليها المسرح أيضًا!.
أنيس حمدون: كنت أفضل أن أموت على أن أعيش بنصف وجه!
تعقدت الأوضاع في حمص أكثر، القناصة ملؤوا أسطح الأبنية العالية، تغيرت أسماء الشوارع بحسب قناصيها، وتحوّل الموت إلى حدث يومي، سقطت قذيفة في الخالدية حيث يسكن أنيس، فهرع مع أصدقائه لإنقاذ المصابين، إلّا أن قذيفة أخرى سقطت على مكان تجمع المسعفين لتقتل وتصيب كثيرين، هناك أصيب أنيس: “كنت أسمعهم، يقولون هذا حي! هذا حي!، حملوني وأسعفوني وبدأت أرى قليلاً، فلمحت وجهي في انعكاس زجاج السيارة (السوزوكي) وإذ بي بنصف وجه، كنت أفضل الموت على الحياة بنصف وجه!” تم إسعاف أنيس إلى مسجد الإيمان، ثم مستشفى الأمل ثم مستشفى البر مع صديقه مظهر الذي فارق الحياة فجرًا، يتذكر أنيس: “جروح كثيرة في جسدي كله، أكثر من 15 شظية، استأصلوا عيني لأنها كانت مهتّكة، هذا ما كان بإمكانهم أن يقدموه فالظروف الطبية كانت سيئة جدًا، وهناك حالات أكثر خطرًا تنتظر”.
تم نقل أنيس من قبل أهله إلى دمشق إلى أحد مستشفيات العيون حيث استأصلوا كرة العين واستبدلوها بكرة مرجانية حية، إذ لا يمكن ترك فراغ في الجمجمة وإلا ضمرت وحدث تشوّه، ويجب أن تكون حيّة ليستوعب الدماغ أن جسمًا ما يعمل ولا شيء قد تغير، وفور خروجه من العملية تم اقتحام المستشفى من قبل باصين من رجال الأمن بعد أن وصلهم تقرير من إحدى الممرضات عن وجود “إرهابي حمصيّ مصاب في عينه بطلق ناري” من حسن حظ أنيس أن أحد الضباط كان يعرف والده، وبالتالي لم يتم اعتقاله، بل أخذوا أقوالهم الملفقة التي تقول: “كان واقفًا على الشرفة يدخّن، فسقطت قذيفة نجهل مصدرها، وأصيب، فأتينا به إلى هنا” بعد فترة غادر أنيس سوريا باتجاه مصر.
الرحلة
انتظر أنيس في مصر إلى أن سافر إلى ألمانيا عن طريق قوائم الأمم المتحدة، ووصل إلى ألمانيا قبل عامين من الآن، يقول أنيس: “فور وصولي، تواصلت مع فرقة مسرحية للهواة، واقترحوا علي إخراج عمل معهم، وهذا ما حدث، بعدها، بدأت بالتدريب في مسرح مدينة أوسنابروك، حيث كانت لدي فكرة فيلم “الرحلة” إلّا أنهم اقترحوا أن تكون عملاً مسرحيًا أكتبه وأخرجه بنفسي، فوافقت، كتبتها باللغة الإنكليزية ثم ترجمناها، وخضع النص للتطور والتراكم والعمل إلى يوم العرض” عُرضت مسرحية الرحلة التي ألفها وأخرجها أنيس وكتبت عنها الصحافة الألمانية، ثم دخلت في البرنامج السنوي لمسرح أوسنابروك، ثم حضرت المجلة الثقافية” ناخت كرتيك” وهي أهم مجلة نقدية للأعمال المسرحية، وكتبت مقالاً نقديًا مفصلاً ورشحت العمل لجائزة أفضل عمل مسرحي في البلدان الناطقة باللغة الألمانية”.
أفضل عمل مسرحي للعام 2015
تعتبر مجلة “ناخت كرتيك” أهم مجلة نقدية في ألمانيا وسويسرا والنمسا، يقوم النقاد بجولة في البلدان الثلاثة ويحضرون العروض ثم يرشحون 47 عرضًا للتنافس على الجائزة، يعلق أنيس: “الترشيح كان جائزة لوحده، لم أكن أتوقع ذلك أبدًا، ولكنني كنت أتمنى ذلك بالتأكيد، هذا أقرب لأن يكون حلمًا، حين علمت بفوز المسرحية بالجائزة، كنت في جامعة ميونخ لقراءة النص ومناقشته، واتصلت بي إدارة المسرح لتخبرني بأن المسرحية ربحت الجائزة نصًا وإخراجًا”.
تشارك زينب، زوجة أنيس في العمل أيضًا وتأخذ مهمة الموسيقا الحية، إذ تؤدي بصوتها جملاً موسيقية معينة أو أغانٍ سورية، أو حتى الأذان، أما قصة العمل فهي قصة “رامي” بطل المسرحية، والاسم الوهمي الذي كان يستعمله أنيس في الثورة، يستقيظ رامي، يشرب قهوته، يتحدث عن فطوره السوري، عن الجبنة، عن علاقته بالقهوة، ويتحدث عن خروجه لمقابلة العمل بعد قليل، حين يخرج، تستيقظ ثلاث شخصيات وتحكي قصتها، يكتشف المشاهد أنهم أموات، وهم أصدقاء “رامي” في حمص وتحكي الشخصيات قصصها فيحكي رامي قصته، كيف قتلوا، وكيف ظل حيًا وهرب، وكيف يولد من جديد الآن في هذا البلد، وكيف خسر كل شيء بناه وأسس له، في خطين دراميين يدور بينهما صراع وتصاعد درامي، لماذا مازال حيًا؟ هنا في أوروبا لا يُقتل أحد غالبًا، بل يموت الناس حين تتقدم في العمر!. رامي لا يدخل إلى المقابلة، ولا نعلم إن كانت المقابلة قد انتهت منذ أشهر، أو ربما اختلقها في خياله، لكنه يخرج كل يوم في نفس التوقيت، ليسمع قصة أصدقائه ويتحدث إليهم حين يظهرون له!.
أيضًا:
وإلى جانب نجاحه المسرحي في “الرحلة” عاد أنيس إلى التدريس، فهو يدرّس في مدرسة مهنية (بيروف شوله) في برنامج لخمسة وثمانين طالبًا بين 16-21 عامًا، هنا يدرّس اللغة الألمانية، ويدرّس المسرح أيضًا كنشاط مدرسي، كما يساعد المدرسين الألمان لشرح بعض الأمور المختلفة، ويساعد القادمين الجدد على فهم هذا الاختلاف، خاصة، في قضية الشرطة: “الشرطة هنا ليست مخيفة، ليسوا كشرطتنا، هنا يحموننا ويساعدوننا، ليست البعبع الذي نخاف منه” يقول أنيس، ثم يختتم: “أعمل في مسرح الأطفال على عمل عربي-ألماني باللغتين، صنعت توليفته بحيث يستطيع الطفل الألماني فهم القسم العربي حتى لو لم يفهم الكلمات، ويستطيع الطفل العربي فهم القسم الألماني كذلك، كما أعمل الآن على مشروع الأوديسة مع مسرح كيل، وكيف يمكن إسقاط حكاية الأوديسة على حكاية اللجوء التي نعيشها الآن”.