عمر مهند أبو الفول
شتاء ٢٠١٥ – قلب العاصمة.
لون السماء أسود. الدخان الكثيف يتصاعد من كل مكان لكن الحياة بطبيعتها الدموية التي اعتدنا عليها منذ أول رصاصة إلى آخِرِ مجزرة. كل الطرقات تؤدي إلى قذيفة، فالتصعيد بدأ منذ أيام. أما عن سيارات الإسعاف فباتت أمرًا يثير هوس السائقين بمطاردتها للهرب من الازدحام، وعن قذائف اليوم فكانت مُشبِعة لفقراء الموت والمجازر في هذه البلاد الغارقة بالدماء كانت تكفي لقوتِ يومهم وأكثر. رغم ذلك كان الازدحام في الشوارع لا يبالي بالقذائف التي تنهال على قلب العاصمة اللاهثة مع تزايد نسبة المتسولين والمتشردين بعد كل دوي انفجار وارتِفاع في الأسعار.
دمشق محاصرة بالمجازر اليومية فهي تتذوق منها القليل كرد عسكري لا يستهدف أي بقعة عسكرية، ربما برروا ذلك بإعلان دمشق منطقة عسكرية منذ أيام مضت لتستقبل بعض الصواريخ بكل دم رحب ، إضافة إلى القذائف اليومية التي لا تسقط إلا على المدنيين، ربما لأن المدينة مكتظة بهم و ربما لأن كل المخالب تراهم فريسة هيّنة بهذه البلاد، فهم يستخدمون المدنيين لعروض قتل فنية على مسرح مبدعي الدم والقهر، لا استَثني منهم أحدا، كلهم قتلة، وكلنا مذنبون، ومشاركون بهذه الحرب، وساذجون في تقوقعنا الذي يحتاج انفجارًا أو انتحارًا لأن الغالبية العظمة تراقب فقط، تراقب كما لو أنه فيلم لم تُحدد مدته ولم يحدد عدد مشاهديه، حتى المشاهد قد يُصاب بقذيفة نفسية تنهي حياته.
بدأت القذائف تقترب فدوي انفجارها يعلو شيئًا فشيئًا، سقطت القذيفة الأقرب وأنا أكتب بالقرب من المتحف الوطني لتحولني إلى جماد بلحظة واحدة، أخذَ جسدي صمته وراح عقلي يتقافز بأفكاره: هل مت؟ ماذا يحدث؟ لا بد وأنني سأُسأل وأُحاسب بعد قليل! كفى..كفى!
أُذناي بحالة تشفير، كل الناس حولي يرقصون رقصة جنونية، ثم أسمع إيقاع التحذيرات “روووح عالحيط، أبو أحمد أمسك الولد، انتبهوا شكلوا في وحدة تانية، ماما!!” أخذوا بقذف كلام غير مفهوم لبعض الوقت ثم أدركتُ بعد لحظات أنني لا أزال على قيد الحياة، تلفتُ حولي ولم أَرَ ضحايا، هذا جيد لم يركب عزرائيل هذه القذيفة، الجميع هنا يتفقد نفسه ويكمل طريقه بمرافقة شعوره بأنه قد يُصاب بأي لحظة ولكنه سعيد بأنه على قيد الحياة وحزين لأنه لم يمت بعد.
ولكن أم أحمد كانت الوحيدة التي لم تكترث لنفسها، ولا للغبار الذي غطى ثيابها، حتى أنها لم تتفقد نفسها فقد هرعت وحضنت ابنها بقوة بينما كان أبو أحمد يطلب منهم التحرك بصوت ضعيف ليقول بعدها: “نفدنا من الموت هالمرة يا أم أحمد، خليك رجال بابا بدنا نتعود” وتابعوا طريقهم مُنَكَّسين إثر قذيفة أصحتهم من سَكرةِ السلام الميتافيزيقي، فهذه حرب وجميعهم يدركون أن الحرب قادرة على سلب حياة أي أحد، ودون سابق إنذار فهي تقتل ضحاياها خلسة، ومن ثم ذعر آخَر بقذيفة أُخرَى ولكنها سقطت في ماء بردى الضعيف المغيث رغم شحه الذي يعانق خيبات أرضه وغناه بقذارات المارة .
مضى وقت متخبط في تلك البقعة، ساد بعده صمت يروي شوق دمشق للسلام، فكنت مثل دمشق صامتًا مُجردًا من معالمِ وجهي، ومثل المخيم وحيدًا في الحدث ومُنهكًا، لابد أن تعبث الذاكرة بصور المخيم المُغتال كلما اقترب الموت مني وأخطأ، علي أن أتجول في الطرقات فلا أحبذ البقاء في مكان واحد، وأنا أقترب من حي الصالحية رأيت جثة على الأرض مغطاة بقطعة من قماش أزرق مكتوب عليه باللغة الإنكليزية “UNRW”وبالقرب من الجثة عاشقان يتبادلان القُبل وعسكريان يشربان السجائر، ما هذه المعادلة!؟ هذه جثة مغطاة بوكالة الأمم المتحدة وعسكريان وعاشقان في آنٍ واحد، سرعان ما دارت برأسي ألف فكرة وكرهت كوني شاعرًا، فقد بدأت أُطلق التشابيه من كل حدبٍ و صوب، نعم كل شيء تحت جناح الهستيريا، لن أنسى هذه اللحظات ما حييت، كان علي العودة إلى المنزل فهذا يكفي ليومي كباحثٍ عن الحدث وما أكبر أحداث اليوم.
تقدمت بإتجاه جسر الرئيس لأشتري رواية وأعود، بدأت أتفقد وأبحث بين الكتب فوقع نظري على كتاب ”الدولة والثورة”!! قلت للبائع: إسا فيني اشتري هاد الكتاب وأوصل عالبيت ببساطة يعني!.. مع ابتسامة لطيفة ربما لتغطية ما نطقه لساني الأحمق، لأنني لا أُسيطِرُ عليه في جُلِ المواقف، فنظر إليّ ويبدو أنه لم يسمع ما قلته بشكل جيد: “تفضل أخي”.
قلت في سري “شكرًا للرب” ثم قلت له: رواية فيرونيكا تقرر أن تموت “باولو كويلو”
أخذت الرواية وبدأت أُناقش نفسي في بعض ما حدث من جنون اليوم، ثم ذهبت باتِّجاه اللحن الناتج من سائقي الميكروباص، حيث المنهكون والبسطاء والقُرّاء والفقراء الذين ملوا انْتِظار نهاية حرب كل حلولها أُصيبت بالعقم ونحن خُصاة مرحبون بكل الغُزاة.