مصطفى علوش*
نعم، أنا مقهور ولكن ليس من السيدة أنغيلا ميركل ، إنما من الذين صدّعوا رؤوسنا بالتعريفات الفلسفية للحضارة والثقافة الغربية، وصوّروا لنا الحياة هنا وكأنها خالية تماماً من الأمراض الاجتماعية، وخاصة مرض الثرثرة ونقل الحكي، ورغم أنني أعتقد، أن بعض السوريين قادرون على تحقيق رقم عالمي، في الثرثرة، ونقل الحكي، وتدويره من قارة إلى قارة، كما من حارة لأخرى، ولكن كلهم مجتمعين، لا يمكن أن ينافسوا تلك العجوز الألمانية، التي تعرفت عليها هنا حيث أعيش، فهي تريد يومياً أن تعرف من باض البيضة؟ ومن أي قنّ الدجاجة التي باضت؟
نعم، فهي لا تهتم إطلاقاً بأخبار تشكيل الحكومة الألمانية، ولا يعنيها بقاء السيدة أنغيلا ميركل أم لا، وطبعاً لا تحبّ أخبار الرياضة، وكرة القدم، والتزلج، والجمباز، فكل ما يهمها، أن تعرف لماذا صديقتي الألمانية على خلافٍ مع زوجها مثلاً، ورغم أنها تعرف كل الحيثيات التي تسببت بخلاف صديقتنا مع بعلها، مع ذلك تحبّ أن أعيد لها ما تعرفه.
والحقيقة، أنني وجدت في حالة تلك العجوز نقطة ضعف حضارية عند الألمان، حتى أنها تشبه شخصية “جودة” في مسلسل ضيعة ضايعة، وتطابق في نمط كلامها جارتي السورية في حضن الوطن، التي كانت تراقب دبيب النملة في الحي.
قد تتساءل كقارئ “ما علاقة عنوان هذه المقالة بما أسرده هنا؟” وإليك الرد، يمكنك أن تسأل السيدة ميركل وحكومتها عن الاندماج الذي “صرعونا” به، ونسوا الدور السلبي لتلك العجوز في الاندماج، صحيح أن لديهم ضمان صحي، وشرطة محترمة، ومخابرات سرية تعمل لخدمة الدولة والمجتمع، على عكس مخابرات الأسد، ولكن عندهم عوامل عديدة تسرق وقت اللاجئين السوريين، فأنا أحتاج مثلاً لربع قرن آخر لأ فهم الداتيف والغينيتيف، “المجرور والمضاف إليه”، ومعه الجمل الفرعية والأساسية، وفوق ذلك، يتوجب عليّ كلما صادفتني جارتي تلك، أن أحكي لها عن أحوالي وأخباري، علماً أنه لا أخبار لديّ، سوى ملاكمة قواعد اللغة الألمانية وأسرارها، ومصارعة مفرداتها ليلاً نهاراً فقط، وحتى الآن، لا أستطيع أن أشرح لها بالألمانية، كيف ابتلع وليد المعلم نصف أوروبا، ولم يشبع.
ولأنني مثل غيري حملت معي فضولي، فإني أحبّ أن أوجه للسيدة أنغيلا ميركل رسالة غير شخصية ،أعرب فيها عن محبتي واحترامي لها، ولسياستها الحكومية، ولكن أريد أن أعرب عن قلقي الشخصي، من تنامي ظاهرة الثرثرة في حياة الألمان، وأطالبهم بمزيد من الحزم والجدية في معالجة مشاكلهم الإجتماعية. فنحن في سورية والحمد لله، كنا نعيش في نعيم كبير، وكان القائد يقدم لنا كل سنتين منحةً قيمتها أربعة آلاف ليرة، وكان الناس عندنا بعيدون عن الثرثرة، ونقل الحكي، والكل كان مهتماً فقط بإنجازات القائد وقيادته القطرية، ومتابعة مسلسل باب الحارة، وأخبار زهير رمضان، ولا نحب تضييع وقتنا بالكلام هنا وهناك.
أعتقد أن جملة “نسوان الحديجات”، التي كانت تستخدم في بعض المناطق لوصف النساء اللواتي يجلسن على عتبات منازلهن، يمضين الوقت في تداول أخبار الحي، تطورت في بلادنا، لتصبح ملائمةً لتوصيف حال كل من ليس لديه عمل، ويجلس على “الحديجة”، وينتظر أي عابرٍ ليتحدث معه.
جارتي الألمانية تلك، لا تحتاج إلى “حديجة لتجلس عليها”، فالطقس في ألمانيا لا يساعد على الجلوس في الخارج كثيراً “والحمدلله”، لكنها تمارس موهبتها، ومهاراتها اللغوية، وهي واقفةٌ في الطريق، وحين يتعب أحد العابرين من حديثها، تستبدله بآخر، وهكذا، إلى أن تطمئن على أن جميع أخبار الساكنين صارت في جعبتها.
قبل أن نصل إلى ألمانيا، كنا نقرأ عن مفهوم اسمه “الصدمة الحضارية”، وعن حوار وصدام الحضارات، وها أنا أكتشف حواراً آخر، لا ينتمي إلى ما عرفته سابقاً، إنما ينتمي إلى بساطة المجتمع الألماني. وأعدكم إذا تمكنت يوماً من زمام اللغة الألمانية، وبالتالي فهم كامل حديث تلك العجوز، أن أكتب لكم مسلسلاً، عنوانه ضيعة ألمانية ضايعة.
أما الآن فسأعود لمتابعة أخبار الحوار السياسي في ألمانيا، من أجل تشكيل الحكومة، وأتذكر أيام حضن الوطن، حين كان القائد، يشكل الحكومة بساعة واحدة، ويلغيها بدقيقة.
*مصطفى علوش. صحفي وكاتب من سوريا مقيم في ألمانيا