أحمد سعيدان
لا شيء أشد مرارةً على مسامع الفلسطينيين، أكثر من كلمة (أونروا). فهي كفيلة وحدها، بأن تُقلّب مواجع نكبات متواصلة لهذا الشعب اللاجئ. كلمة لاجئ تطلق على من أُجبر على مغادرة بلده هرباً من حربٍ، أو اضطهادٍ، أو عنفٍ. ولكن هل تطلق على من لجأ من وطنٍ إلى وطن؟
تُذكّرني هذه الجملة بمسلسل سوري من عام 1987م، “الهجرة إلى الوطن”…
الأردن.. أصبح وطناً للفلسطينيين والسوريين، بسبب نكبة الشعبين. وما عاد يختلف عن سورية وفلسطين شيئاً. احتضننا بكل ما فيه، فأصبحنا لاجئين من وطننا إلى وطننا، وصار الأردن فعلياً ” الوطن المخيم “.
“مرةً أخرى نحن لاجئون”، هذه الجملة قالها لي أحد الأصدقاء، عندما جاء للأردن قادماً من مخيم اليرموك. لاجئون فلسطينيون للمرة الثانية والثالثة، وبعضنا للمرة الرابعة. هذه حال من نزح عن المخيمات الفلسطينية في سوريا، وبالتحديد مخيم اليرموك، الذي يطلق عليه الفلسطينيون اسم “عاصمة الشتات”.
بدأنا السير أنا وصديقي في شوارع عمّان القديمة، بمحاذاة الجامع الحسيني الكبير في “وسط البلد”. العمران العمّاني القديم يشبه إلى حد كبير العمران الدمشقي. دخلنا أحد مقاهي عمّان القديمة، “يا إلهي كم يشبه مقهى الهافانا”، هذه الجملة قالها صديقي قُبيل طلبه لـ”قهوة سادة مغلية لو سمحت”.
لا يعتبر مخيم اليرموك مخيماً، مقارنةً بالمخيمات البائسة الفقيرة في لبنان، فقد كان لا يختلف عن أحياء مدينة دمشق، من حيث البناء الحديث، أو الشوارع والأسواق التجارية. مئة وخمسون ألف فلسطيني، نزحوا منه إلى مناطق مختلفة داخل سوريا، وإلى الأردن ومخيمات لبنان. كانوا ضحيةً أيضاً لهذه الحرب العبثية الهوجاء. هذا الموت عبثيٌ، أو كما يُقال (بلا طعمة). وكل ذلك يجعلك تتساءل: ما هي طبيعة الشرور التي زرعناها، لنجني كل هذا الخراب؟
سألني هذا الصديق “لوين رايحة الأمور؟ ئولتك بحلوها السنة هاي؟”.
شردت لبضع ثوانٍ، وارتشفت شيئاً من قهوتي، ثم أجبته الإجابة النموذجية التي يرددها كل السوريين والفلسطينيين بل كل العرب: “بدك رأيي؟ ما بحلها غير رب العالمين”.
لم يكن يخيل لي أن 180 كيلو متراً بين عمّان ودمشق، ستفصل بين عالمين، ولن تُبقي بينهما سوى ذكريات الضياع. في شوارع المخيم ، وأزقته الضيقة، رأيت الدموع في عينيه، ولم أميز، هل هي دموع الذكريات الجميلة، أم المؤلمة؟
بكل الأحوال هي دموع الحنين، لمخيمٍ كان بحجم وطن.
مشيتُ وصديقي إلى شارع “المدينة المنورة” غرب عمّان. أصوات باعة دمشق، وأسماء محلاتها المميزة، تُعطي رونقاً للمكان، وتعيد الشوق للمنفيين عن الشآم. وعندما وصلنا “بوظة بكداش”، تنهد وقال :”الله يرحمك يابي”.
حدثني بعدها عن زيارته الأولى للأردن عام 2006، حيث كان والده يعمل في عمّان منذ ثلاث سنوات: “حين عبرنا حدود الرمثا من درعا، ظننت أننا لا نزال في سوريا، لأن الثقافة، والعادات، والأسواق، والعمران لم تختلف، وبالتحديد عن المخيم شيئاً. أحسست بالدفء في عمّان، خصوصاً بعد أن تعرفت على شوارعها، وأحيائها، وحتى مخيماتها، من مخيم “ماركا”، إلى مخيم “الوحدات”، وثم “البقعة”، كلها لا تختلف عن مخيم اليرموك شيئاً.
قد يعود مخيم اليرموك إلى أهله مدمَّراً… ولكن هل يعود أهله إليه؟ أم أن لسان حالهم يردد قول المتنبي: “أنا الغريق فما خوفي من البلل”، بعد أن أصبحت عمّان الآن عاصمةً للشتات، بمخيماتها الفلسطينية، ولاجئيها السوريين، وأصبحت “وطناً بحجم مخيم”.