حازم صيموعة.
أربعٌ عجافٌ كانت كافية لأستسلم لواقع ما عاد يحملني وما عدت أحمله، وبيروت -تلك الجميلة التي أعشق- ابتلعت كل ما لدي من عزيمة وتحدٍ، وبعد أن لمع ضوء خلف المسافات الشاسعة، قررت الرحيل، علي أجد لنفسي ما أحيا لأجله.
لم يعد يخيفني البحر يا أمي، فالموت أحيانًا رفاهية لا ندركها إلا بشق الأنفس، وحظي كما تعرفين أبيضُ كالقمر ولكنه أبعد من “نجم سهيل”، لم تعد تكسرني الغربة يا أبي -فالمكسور لا يكسر- وكل ما بقي لدي من أحلام طفولية معك، ما عدت قادرًا على تحقيقها وأنا القريب البعيد الذي حطمته الحواجز ونال منه اليأس لدرجة لم يعد قادرًا بعدها على النظر في عينيك يومًا.
نعم إنه ذات الطريق الذي مرت منه آلاف مؤلفة من الباحثين عن “حياة” هاربين من أرض استوطنها الموت وملأ أرضها وجوها، ثم لاحق الهاربين بحرًا فحصد منهم “ما ملكت يداه”، وتركيا كانت المحطة الأولى والأصعب، فهناك تشعر أنك شاة تحاول إقناع الجزار بأنها الألذ لحمًا، علّه يقبل بذبحها قبل أخواتها. تجار البشر يملؤون شوارع أزمير، والفنادق الرخيصة تعج بالسوريين، والمقاهي تغص باجتماعات السماسرة مع “بضاعتهم” مدفوعة التكاليف مسبقًا، فهذا يفاوض على الأسعار، وذاك الحذق يطالب بطريق آمن وضمانات من المهرب ويحاول فرض شروطٍ لست أدري كيف سيضمن تحقيقها، متناسيًا أو ناسيًا أنه يفاوض مهربًا ولا يكتب عقد بيعٍ لدى “كاتب بالعدل”، وبعد عدة محاولات فاشلة للتوصل إلى اتفاق مع السماسرة السوريين الذين غمرونا بلطفهم وطيب أخلاقهم خلال محاولاتهم لاستغلالنا، أبرمنا اتفاقنا أخيرًا وبدأت التجهيزات لاجتياز البحر، وتم تغليف النقود كي لا تبتل وأجهزة الموبايل محفوظة في أكثر الأماكن أمنًا، وما إلى ذلك مما يعرفه من خاضوا غمار تلك التجربة.
في الطريق ليلاً إلى ما يسمى في عرف المهربين “النقطة”، كان جوٌ من المرح يسود مجموعتنا المكونة من أربعين “باحثٍ عن الحياة”، تكلل فرحنا بقضاء ليلة في بناء قيد الإنشاء بعد أن تنصل المهرب من إرسال سيارات لأخذنا بعد أن أوصلنا باص “البولمان” إلى آخر نقطة يستطيع الوصول إليها، ثم ثلاث ليالٍ في العراء أحسست خلالها أننا في إحدى مغامرات المسلسل الأجنبي “Lost” مسؤولو “النقطة” من السوريين أبوا أن نغادر دون أن يطبعوا ذكراهم في نفوسنا، إذ لم نحصل على إذن بالخروج من هذا السجن المفتوح، إلا بعد أن دفعنا خمسين دولارًا عن كل شخص في مجموعتنا، وفي الصباح الباكر بدأت عملية التجهيز للانطلاق، على مرأى خفر السواحل التركي، الذي بدوره آنسنا بوجوده واستعراضاته المائية، على بعد 500 متر ربما من الشاطئ الذي من المفترض أن ننطلق منه، وبحركة أشبه بأن تكون بهلوانية، انطلقت سفينة خفر السواحل مدبرة فأقبل الفرج، في هذه اللحظة أطلق العنان لأربعمئة شخص أو يزيد، كي يركبوا عباب البحر فيما يشبه إنزالًا بحريا للجيش التركي باتجاه الجزيرة اليونانية حسبما وصفته صحفية بريطانية كانت تراقب من على الجزيرة، كنا قد التقيناها بعد وصولنا. كان ذلك أقسى مشهد بشري أشهده في حياتي، لم أستطع أمامه أن أنبس ببنت شفة، هي لحظات غريزية بامتياز كاد الدم يجف في عروقي أمامها، لا شيء يوحي بأن ما يحدث هو عمل بشري، هذا ما قلته لصديقٍ كان يقف بجانبي، فالمعركة في الأسفل وعلى بعد بضعة أمتار منا، نحن من قررنا التريث ريثما تهدأ العاصفة قليلاً أشبه بمجموعة من الكائنات الجائعة، وجدت فجأة ما يصلح للأكل فبدأت معركة “البقاء للأقوى”.
بعد وصولنا إلى اليونان، بدأ الطريق يصبح أسهل بل ربما أجمل، رغم كل ما فيه من مصاعب، وبسلاسة قطعنا القارة العجوز كما يخترق السكين الزبدة، إلى أن وصلنا الحدود “الهنغارية”، إنه ذاك الوحش الذي يخافه الجميع، والأعصاب تكاد تنفلت من التوتر، ثم وقع المحظور. أمسكت بنا الشرطة الهنغارية أثناء اجتيازنا الخندق المحفور بين صربيا وهنغاريا، تكسرت حينها كل آمالنا وعلقت الغصة في الحلق، فلم نجتز قارتين كي نتوقف هنا، نحن الهاربين من موتٍ وبضعة جيوش كان أولها الغول السوري ثم المليشيات اللبنانية فالجندرما التركية وشبح الموت في بحر “إيجه” مرورا بجيش اليونان ومقدونيا وصربيا، لدرجةٍ أصبحنا بعدها خبراء في الهروب، إذ بعد ما يقارب الساعتين استطعنا الهروب من على أطراف المعتقل الهنغاري، لنتابع الزحف إلى أعماق أوروبا، وكانت فيينا وليالي الأنس محطتي الأجمل، قبل أن أتابع قدمًا إلى ألمانيا حيث كان المستقر.
جئت محملاً بالأمل، ليس أملاً في البلاد فقط، بل في عيون رأيت فيها ما يبشر بفرح عظيم ربما يعوض ما تكسر من أحلام جعلتني أشيخ باكرًا، أتيت كي أعيشها أيضًا فأنا الذي قلت يومًا (إذا أحببت امرأة، عليك أن تعيشها، لأن امرأة تحبها أحق بالعيش، من حياة أجبرت على الوجود فيها) الموت ليس صديقًا لهذه البلاد يا أمي، هو زائرٌ خفيف الظل، يأتي ويرحل صامتا على عكس موتنا غريب الأطوار، صاحب الممارسات الجنونية كأنه هاربٌ للتو من مصحٍ للأمراض النفسية. الغربة في هذه البلاد ليست من العادات والتقاليد يا أبي، بل لعل أكثر ما يشعر الآخرين أنك غريب، هو إحساسك بالغربة، التي ولسوء الحظ كبرت معنا وعاشت فينا حتى قبل أن نخرج من بلادنا.