هي من الأشخاص الذين تحبهم ببساطة. مبتسمة، لطيفة، أنيقة ولديها الكثير لقوله، التقيتها قبل عام عند أصدقاء، واتفقنا على اللقاء ثانيةً. راسلتها لاحقًا لنحدد موعدًا، فأجابت بلطف: “حبيبة قلبي، بحكي معك بهاليومين أكيد.. بكرا عندي جرعة كيمو، وبمجرد مايتحسن وضعي منحكي ومنتفق.” وفوجئت، لأن اسمها لم يُذكر أمامي أبدًا مقترنًا بالشكوى والألم، ولا العطف والمراعاة كالعادة في ظروف كهذه، وفي لقاءاتنا التالية لم أشعر للحظة أنها تعاني مرضًا يحتاج من الكثيرين التفرغ والاهتمام بالذات فقط، فبدت كمن يجري في سباق مسافاتٍ طويلة، وسبقت الكثيرين دون شكوى. أمام قوّتها، خجلتُ من شكواي من الصداع أو آلام الظهر. لن يكفي لقاءٌ واحد لتروي قصّتها، لكنّني سأجتزئ بعضًا منها لأشارككم به، وتتعرّفوا على جمانة سيف، التي قدّمت نفسها: “حقوقية سورية، مواليد 1970، لاجئة في المانيا منذ آب 2013، أؤمن أن حرية الانسان وكرامته أغلى مايملك”.
- هلاّ حدّثتنا، بدايةً، عن عملك قبل الثورة؟
بدأت حياتي المهنية في مجال عمل عائلتي في صناعة الملابس. منذ طفولتي قضيت وقتي بين العمال وانخرطت في جو العمل جدّيًا، وتدرجت في مهنة الخياطة الصناعية ثم العمل الإداري. ومع تأسيس والدي، رياض سيف، شركة “أديداس” في سوريا عام 1993، فضلت العمل معه وأسست “قسم الإشراف الاجتماعي” الذي كان يحظى بمخصصات من أرباح الشركة ويعنى بالجوانب النفسية والصحية للعمال وعائلاتهم، ودعم متابعة تعليمهم، وتطوير إمكانياتهم ومواهبهم (موسيقى، مسرح، شطرنج)، وتنظيم رحلات وبرامج ترفيهية لهم ولعائلاتهم.
عام 2001 أصبحت دون عمل بعد اضطرارنا لبيع آخر حصة من شركة “أديداس”، لتسديد الضرائب الكيدية المتتالية التي لا أساس لها، إذ كانت أسلوب النظام للانتقام من والدي بسبب معارضته وإصراره على كشف الفساد رغم المغريات التي قدمت له، ثم التهديدات عند رفضها، عملاً بواجبه كنائب عن الشعب في البرلمان منذ عام 1994.
خسرنا كل شيء تقريبًا ولم تنته معركتهم وانتقامهم حتى بعد اعتقال أبي في أيلول 2001، نتيجة فضحه صفقة عقود الخليوي التي نهبت مال السوريين لصالح عائلتي الأسد ومخلوف، واستئناف لقاءات “منتدى الحوار الوطني” في منزله بصحنايا. تصاعدت الضغوط الأمنية والتهديدات على العائلة بشكل فظيع، مما دفع أغلبهم للانكفاء فكان لابد من قرار، فإما الخوف والانكفاء وإما إعلان موقفي بشجاعة وتحمل مسؤولية قراري، فاخترت المواجهة والانتصار لمبادئي. كان على رأس أولوياتي الحفاظ على حياة أبي بعد تعرّضه لأكثر من محاولة اغتيال في السجن. وثانيًا، ألا أتركه معزولاً في سجنه، فأصبحت صلته مع العالم الخارجي من محاميين ودبلوماسيين وسياسين، والناطقة باسمه وممثلته الرسمية، فتسلّمت نيابةً عنه جائزة مدينة فايمر الألمانية لحقوق الانسان والمواطنة عام 2003، ومثّلته عند تأسيس “إعلان دمشق” عام 2005، وفي لقاءات حقوقية ودبلوماسية بعضها رفيع المستوى.
وأصبحت دراسة الحقوق أكثر إلحاحًا لسببين: الاستقلال المادي وبناء معرفة وخبرة قانونية. فدرست الحقوق في الجامعة العربية ببيروت، واجتزت امتحانات معادلة الشهادة في كلية الحقوق بجامعة دمشق، وسجلت في نقابة المحامين. للأسف، لم أستطع ممارسة المهنة نتيجة إصدار مجلس فرع النقابة بدمشق قرارًا بفصلي، بعد رفضي المساومة على نشاطي الحقوقي والسياسي ودعم مواقف والدي، لكنني لم أستسلم واستمرت معركتي لأربع سنوات وحصلت على حكم بإعادة تسجيلي في شباط 2012، والفضل في هذا يعود للثورة. ومثل الكثيرين، اضطررت للخروج من سوريا بعد وقت قصير.
- وماذا عن تجربتك بعد الثورة ومغادرة سوريا؟
بعد مغادرتنا سوريا، بقيت مع عائلتي لسنة تقريبًا في القاهرة، وهناك عُقِد المؤتمر التأسيسي لشبكة المرأة السورية، وهي تضم شخصيات مستقلة ومنظمات نسوية وحقوقية تؤمن بقضايا المرأة وبأهداف الثورة السورية، وانتُخِبت للجنة المتابعة والتنسيق، وبعد سنتين انتُخِبت لرئاسة اللجنة القانونية في الشبكة، ومثلت الشبكة والمرأة السورية في فعاليات ومؤتمرات ومنابر دولية، كمجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة.
وصلتُ برلين في آب 2013، ودرست اللغة الألمانية، وكانت لي فرصة التدرّب في شركة محاماة ألمانية، لكنّ المرض منعني من قبول عرضهم بالعمل بدوام جزئي. وبعد نهاية العلاج الذي احتاج سنةً تقريبًا، بدأت العمل مع “المركز الاوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الانسان” (ECCHR)، كما أنني ضمن فريق عمل “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”.
- كحقوقية، هل تؤمنين بعدالة القانون الدولي في الشأن السوري، ونحن نعلم فساد القانون في سوريا؟
القانون الدولي، بما يخص الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، حديث العهد نسبيًّا، وهو مبني على اتفاقيات توقّعها الدول. والدول لها مصالح إقتصادية وسياسية متشابكة، لذا لست واهمةً بأننا سنرى مرتكبي الفظائع في سوريا وعلى رأسهم بشار الأسد في المحاكم الدولية قريبًا، ومع هذا أعرف حق المعرفة أن هناك رغبة عند الكثير من الدول والمنظمات لوضع حد للإفلات من العقاب، وأن الظروف الدولية تتغيير، وهذه الجرائم لاتسقط بالتقادم. وعليه، واجبنا كحقوقيين سوريين وبالتعاون مع المنظمات الحقوقية الصديقة السعي للاستفادة من القوانين التي تضمن محاسبة المجرمين وتحقيق العدالة.
- كأم لثلاثة أبناء وصاحبة مشروع حقوقي، كيف تستطيعين التوفيق بين المهمتين؟
الآن لا مشكلة لدي في هذا، فأولادي كبروا. عانيت بعض الشيء أثناء دراستي للحقوق، إذ كانوا صغارًا وبحاجة للرعاية والمساعدة، في وقت كان لدي الكثير من الإلتزامات إضافة للدراسة والضغوط الأمنية. التحدي والإصرار وتنظيم الوقت ساعدني كثيرًا.
- حبذا لو تعطينا فكرة عن مشروعك الحالي؟
أعمل حاليًا لاكتساب أكبر قدر من المعرفة والخبرة في القانون الدولي، والمساهمة في الجهود الرامية إلى مساءلة ومحاسبة مرتكبي الجرائم الفظيعة بحق الشعب السوري، لاسيما الانتهاكات ضد النساء، كالاغتصاب الممنهج والتعذيب الوحشي في المعتقلات، لذا أنا ضمن فريقي (ECCHR) و”المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”.
- ماهي رؤيتك للمشاريع والحركات “النسوية” العديدة، وما أهميتها للمرأة السورية؟
لم يكن هناك “حركة نسوية” قبل الثورة، فالمجتمع مصادر ومحروم من العمل السياسي والمدني معًا، كان هناك بعض المناضلات النسويات وهنّ موضع تقدير بالتأكيد. بعد الثورة تأسست العديد من المنظمات والشبكات النسائية والنسوية، وحاولت العمل ضمن الظروف المتاحة، وأعتقد أننا بدأنا نلمس مؤخرًا، كنتيجة لعمل السنوات الماضية، ملامح حركة نسوية بأهداف ومطالب واضحة، كالمشاركة الفاعلة في جميع مراحل صنع السلام وبناء سوريا المستقبل مثلاً. مازالت هذه الحركة تحتاج الكثير من التنظيم والدعم، ومع هذا، أعتقد أن ظروف الحرب القاسية التي دفعت المرأة للخروج إلى العمل وإعالة أسرتها ستفرض واقعًا جديدًا، وأدوارًا وعلاقات مختلفة في المجتمع، ولأنه سيعول على المرأة كثيرًا في إعادة الإعمار نتيجة خسارة الرجال، وستتحمّل مسؤوليات وواجبات إضافية، فلا بد من مقابلتها بالحقوق والضمانات.
- ضمن المعطيات الدولية الحالية، كيف تنظرين إلى الحل في سوريا، وهل من حل عادل حقًا؟
إن عالمًا يحكمه ترامب وبوتين ومساوماتهما لهو عالم مجنون، لا اعتبار فيه للقيم الإنسانية وحقوق الانسان والقضايا العادلة. لذلك، أرى المستقبل مفتوحًا على كل الاحتمالات، ومايجري من تنازلات ومساومات لايبشر بالخير إطلاقًا، مع هذا أنا مؤمنة بقضيتنا، مؤمنة بثورتنا وعدالة مطالبها برغم ماشابها من أخطاء وانحرافات. قضيتنا هي قضية ملايين من السوريين، دفعوا ثمنًا هائلاً لمجرد مطالبتهم بالحرية والكرامة في مواجهة نظام ديكتاتوري مجرم، استعمل كل الأسحلة الفتاكة ومنها الكيماوي لإبادة معارضيه والبقاء بالحكم، وهذا مثبت في تقارير المنظمات الدولية بالأدلة الدامغة، فهو مجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية بمقتضى كل القوانين والشرائع، فإلى متى سيحتمل العالم المكابرة في محاولات فرضه علينا؟! هل يعتقدون بإمكانية بناء السلام مع مجرم؟! وهل يتخلى المجتمع الغربي عن قيم الحرية العدالة والكرامة الانسانية ويدوسها بهذه البساطة بعد كل نضاله من أجل إرسائها؟ ؟! فإن فعل، فبأي قيم سيحارب التطرف والعنف وهل سيتحمل الكلفة؟! لعلّها سذاجة مني، ولكن يصعب عليّ تصور سيناريو كهذا لانه منافٍ للعدالة وللإنسانية وللعقل والمنطق.
- نعلم أن المرض لم يوقف نضالك على الصعيد الشخصي وعلى صعيد دعم الثورة، هلّا حدثتنا عن هذا؟
كمعظم السوريين، في هذه الظروف، أهملت وضعي الصحي رغم التغييرات التي ظهرت عليّ. وبعدما اشتدت الآلام زرت الطبيب بمفردي في موعد مستعجل، لأفاجأ به يقول بهدوء: “لديك سرطان ثدي، وضعك ليس سهلاً، أعتقد أنه متقدم وأتمنى ألا يكون منتشرًا. عليك استكمال الفحوصات والخضوع لعمل جراحي بأسرع وقت”. أجبته: لن أبدأ شيئًا قبل عشرة أيام، لدي التزامات يجب إنهاؤها وسأسافر غدًا. استجاب الطبيب وحدد مواعيد الفحوصات بعد عشرة أيام وبعدها العملية الجراحية.
خرجت من عنده حزينة جدًا. جلست في الحديقة واستعرضت حياتي. اتخذت قرارات شخصية كانت مؤجلة منذ سنوات، فرغم أن سرطان الثدي من أسهل السرطانات ونسبة الشفاء منه عالية، إلا أن احتمال المعاناة الطويلة والموت قائم. فكرت بالعلاج كما شرحه الطبيب (جراحة، كيماوي، أشعة، دون شعر) ثم فكرت بالمعتقلين، وتخيلت نفسي معتقلة في أحد فروع الأمن الحقيرة. هل تساوي كل فترة العلاج ساعة من التعذيب في معتقلات الموت السورية. ماذا تساوي “معاناتي” قياسًا بما يعانيه السوريون والسوريات في المخيمات والمناطق المحاصرة؟ هذه الفكرة خلقت عندي حالة من القوة والتحدي، بجانب دعم والدي الحبيب وأولادي وأحلى الصديقات والأصدقاء، وأنا ممتنّة لهم جميعًا فقد أحاطوني بالحب والدعم والفرح لدرجة تجعلني أقول إن فترة العلاج (قرابة سنة) من أجمل سنين حياتي لوجودهم حولي دائمًا، والطاقة الايجابية والقوة التي منحوها لي، فاستطعت مواصلة نشاطي وعملي التطوعي وسفري دون انقطاع.
العدالة، كشف الانتهاكات، محاكمة المجرمين، أين جمانة من كل هذا؟
أنا مؤمنة بأن لاسلام بلا عدالة، وأيّ حلٍّ سياسيّ لا يطلق مسار العدالة ويفتح ملفات المحاسبة لن يجلب سلامًا مستدامًا، وإن فرض سلامًا زائفًا هشًّا. العدالة حقّ لنا نحن السوريين جميعًا، وبدونها لن تهدأ النفوس المكلومة ولن يتحقق السلم الأهلي، أو يعود اللاجؤون إلى سوريا والمساهمة في إعادة اعمارها. العدالة حقنا وحق أبناءنا وحق الإنسانية، ولن نتنازل عنه بل سنسعى له بكل السبل الممكنة.
هل من كلمة أخير لقرّاء “أبواب” نختم بها اللقاء؟
أود القول، كلاجئة في ألمانيا عانيت واختبرت ما يعانيه معظم اللاجئين السوريين في أوروبا، البداية من الصفر أو تحت الصفر، تعلم لغة جديدة صعبة، ثقافة وعادات مختلفة، البدء بعمل ربما يبعد كل البعد عن الخبرات التي راكمها المرء لسنوات. مع ذلك، لا يمكن ألّا أرى الجوانب الإيجابية لوجودنا هنا، فهذه فرصة لنا ولأبنائنا للتعلم واكتساب خبرات ومهارات جديدة. الجامعات الألمانية فُتِحت للسوريات والسوريين، والمؤسسات الألمانية أمّنتنا صحيًا وصانت كرامتنا من الحاجة. ورغم وجود بعض الحركات المتطرّفة ضد اللاجئين، فالمجتمع الألماني بغالبيته مرحب، أو على الأقل يتقبّل وجودنا. لديه مخاوف وهواجس مفهومة ومبررة، وإنّ تبديدها وطمأنة الألمان تجاهنا وكسب ثقتهم واجبنا جميعًا، فكل منا سفير لسوريا ولقضيتنا، وأتمنى أن نستثمر الفرصة بأفضل وأرقى صورة ونعود قريبًا، فسوريا المستقبل، الحرة الديمقراطية كما نتمناها، بحاجة لأبناءها لإعادة بناءها.
مواضيع ذات صلة:
المشي في حقل الألغام.. العمل النسائي المدني في سوريا