في لقاءٍ كان مخططاً له ألا يستغرق أكثر من نصف ساعة، أخذنا الحديث أنا وأغيد الرضا إلى أماكن بعيدة عن مجموعة الأسئلة المحددة التي كنت قد أعددتها لأعرف آراء الشباب في تطبيقات المواعدة، ولأنني أعيش وأعمل بمنأى عن التوقعات تجاهلت أسئلتي ومضى الوقت وأنا أتابع أفكار أغيد، فهي الأهم..
حاورته سعاد عباس
“كنت أتجنب دوماً التفكير بما ستكون عليه حياتي لو أنني بقيت في سوريا، للأسف أتخيلها الآن حفرةً سوداء، ربما سأكون في مثل هذا الوقت أتعفن في أحد معتقلات النظام، أو أموت على يد أحد المتشددين لأنني مرتد”.
في مرحلةٍ سابقة في حياته تمنى أغيد أن يعود إلى شمال سوريا مثلاً ليعمل هناك في مجال التوثيق، وحين سألته كيف يتصور إمكانية إقامة علاقة عاطفية هناك، أكد بأن الوسيلة الوحيدة لأي تعارف أو لقاء ستكون الفيسبوك حصراً، فاللقاء اجتماعياً شبه مستحيل، وبما أن تطبيقات المواعدة التي تعرفنا عليها هنا يصعب عملياً استخدامها في سوريا فوسائل التواصل الاجتماعي هي المتاحة.
يعتقد أغيد (28 عاماً، وهو مصور ويعمل حالياً في مطعم) أن تصوراته المسبقة عن الـ “Dating Apps” كانت مرتبطة بفكرة الفشل في التواصل الاجتماعي على أرض الواقع، ثم يستدرك بأن المجتمع ذاته ما عاد يتيح إمكانية بناء علاقات إنسانية أصلاً، فالفشل هنا ليس عائداً على الشخص وقدراته على التواصل، لاسيما في ألمانيا حيث الناس هنا أصلاً ليسوا اجتماعيين وزاد الأمر سوءاً مع كورونا فلم يبق هناك مكان للقاء، عدا عن “أننا جدد في هذا البلد، فكيف سنبني علاقة ونحن ليس لدينا قنوات لبناء العلاقات، ومن هنا تبدو التطبيقات حلاً لمشكلة الواقع”.
اقرأ/ي أيضاً: عن تطبيقات المواعدة في بلدان اللجوء: لن أكون “خليلةً افتراضية”..
ألوان وخيبات.. نحن مرفوضون هنا
حين بدأ باستخدام تطبيق المواعدة كان يبحث عن أناسٍ يشبهونه ليمضي معهم وقتاً ممتع، يبحث عن الحميمية بمعناها العميق وليس فقط عن العلاقة الجنسية: “يهمني أن أتعرف على أشخاص منفتحين على مشاعرهم وأوسع من خيار محدد أو رغبة معينة. في التطبيق مئات الآلاف من البشر من كل الشرائح ولذلك هو فرصة للتعرف على المجتمع، فمن في الداخل نفسهم في الخارج ويمثلون نفس سويات واختلافات ومشاكل الناس على أرض الواقع”.
الأصعب هو أنه حاول أن يكون صادقاً دوماً وهنا يسقط المرء في فخ الخيبة، فالشخص ينشئ بروفايل لينال إعجاب الناس: “تخيل الخيبة حين تبذل جهدك لتكون حقيقياً ومن ثم تكتشف أن حقيقتك تلك لا تنال الإعجاب”
منذ الفترة الأولى لاستخدام أغيد للآب/App لاحظ كم كان سهلاً على صديقه الألماني الأبيض أن يحصل على “لايكات” ومواعيد، بينما هو ببساطة لم ينل تلك اللايكات بسبب لونه أو شعره وهنا بدأ يشعر بالرفض المجتمعي للملون: “الواقع هو أننا مرفوضون هنا وهذا الشيء واضح، العنصرية يمكن أن تظهر بفجاجة لدى البعض، وبطريقةٍ مواربة لدى البعض الآخر؛ كالأشخاص الذين يهتمون بمواعدة الملونين فقط لأنهم “أدنى” منهم اجتماعياً، بمعنى أن “الملون” هنا مضطر لتقديم تنازلات وأن يكون ممتناً لهذا الأبيض المتفوق لمجرد أنه يواعده.”
اقرأ/ي أيضاً: عن تطبيقات المواعدة في بلدان اللجوء: ليس مكاناً للبحث عن الحب.. لكنني الآن بخير
بدون أقنعة
في مرحلةٍ من المراحل تمنى أغيد أن تكون له حبيبة/شريكة، لكنه ضبط نفسه يناقض قناعاته، إذ كان يحاول إلباسها أمنياته وتوقعاته عن الحبيب، بدل أن يتيح لها أن تكون حقيقيةً وغير مضطرةٍ لملء الفراغات في تخيلاته عن الحب، ولكنه يعرف الآن أنه لو أراد يوماً ما الزواج أو بناء علاقةٍ طويلة الأمد، فإن فكرة الارتباط بشخصٍ يعرفه عبر التطبيق مرجحة كثيراً، لأنه يتيح قدراً كبيراً من الصدق كما يتطلب قدرةً هائلة على المكاشفة: “وكأننا نتعرف على أنفسنا بشكل حقيقي بدون أقنعة عن طريق بعضنا البعض”.
ويضيف هنا أمنيةً: “أتمنى أن أتعرف على فتاةٍ سورية تفهمني من نظرة تعرف ما عشته ولنا نفس التاريخ ومستوى الدراما والكوارث في حياتنا متشابه، ولكن للأسف عدد الفتيات السوريات على التطبيقات قليلٌ جداً، ببساطة لأنه يحق للذكر ما لا يحق للأنثى في مجتمعاتنا، وهناك رأي مجتمعي مسبق تجاه أي فتاة في التطبيقات، والفتاة تصدقه وتخضع له لأنها ستتحمل الكثير من التبعات، بالنسبة لي عندما أجد سوريةً على التطبيق أعرف أنها تخلصت من آراء وتقييد المجتمع، وهذا يثير إعجابي واحترامي”.
شكراً أوكي كيوبيد..
من بين التطبيقات التي جربها أغيد يفضل أوكي كيوبيد ويعتبره أكثر عمقاً من التندر مثلاً، فالكثير من مستخدميه يكتبون عن مشاعرهم العميقة ومشاكلهم النفسية وهم أكثر تصالحاً مع الذات، وتقبلاً لغراباتهم. كما تمكن عبره من تكوين صداقات خارج إطار العلاقات الحميمة أو العاطفية بعيدة عن أي شكل من أشكال الادعاء.
ولكن هذا تحقق لأنه نابع من رغبته فيه، بينما قد لا يهتم آخرون ببناء صحبة، وهذا ما قالته له إحدى الفتيات عندما تعارفا “عندي أصدقاء.. أنا أبحث هنا عن حبيب”، الفتاة الألمانية تعرف ما تريد وترفض تضييع وقتها في شيء آخر، والكثير من الألمانيات اللواتي تعرف عليهن في التطبيق كنّ يردن علاقة طويلة وارتباط حقيقي، وتشكيل عائلة، ويعبرن عن ذلك بكل وضوح ومباشرة.
أريد عالماً بلا Aplications
تغيرت قواعد المواعدة بالنسبة لأغيد، فهو لم يعد مستعداً للمغامرة كما في السابق، من ناحية لأنه دائم التغيير ولذلك تتغير متطلباته من التطبيق ومن الأشخاص كما أن انشغاله بالعمل وامتلاء حياته الواقعية لا يتيح له الوقت ليلتقي بأحد، إلا أنه مازال يدخل التطبيق فقط ليتفرج على الوجوه.. أو يرد على أشخاص مثيرين للاهتمام”.
بكل الأحوال يفضل النمط الواقعي التقليدي للقاءات الإنسانية، لأن التطور الطبيعي للعلاقة أفضل وبدون توقعات، تنساب العلاقة وتتطور لوحدها.. فما أجمل أن يعبر شخصٌ ما في الحياة قربك دون توقعاتٍ مسبقة، يلفت نظرك وتتبادل معه إشارات الاهتمام والإعجاب كما في الماضي ثم يحدث الانفجار العاطفي فجأة ويحدث الحب، وهذا ما لا يمكن أن يتيحه أي تطبيق فالنية المسبقة والتوقعات الجنسية على الأقل قائمة غالباً مهما اختلفت. ويختم بأمنية: “أتمنى في يوم من الأيام أن تعود حياة الناس اجتماعية، بدلاً من أن نتحول لروبوتات وعندها فقط سنتخلى عن الأبليكيشينات.”