محمد غنيم
شيزوفرينيا تاريخية
يتغنَّى أهل بلاد الشام في موروثهم الشعبي “بالروزانا”، وما كان من فعل أهل حلب حينها للتصدّي للأزمات التي تحل بالأشقاء في “جبل لبنان”، لست هنا بصدد الحديث بالخطاب التاريخي التذكيري، ولكن، جدير بالذكر ماتداولته مواقع التواصل الاجتماعي لصورة عرضت للبيع علَى موقع أمازون الأميركي ب11ألف دولار التُقِطَت في حلب منذ حوالي 72عامًا للاجئين أوروبيين يصطفون لأخذ المساعدات الإنسانية في “الشهباء حلب” هاربين من ويلات الحرب العالمية الثانية على بِلادِهِم، فماذا فعل “مُحملو العنب” ليكافئهم تاريخهم بالعكس، أم أنّ فضائل التاريخ لم تعد تُهِم أحدًا!؟
تقول صحيفة الغارديان البريطانية: “إن المدن المدمرة ستبقى شاهدة عبر التاريخ على ما جرى في أرجائها من حروب، كانت الطائرات أهم أدوات تدميرها وكانت القنابل النووية سبب في دمار بعضها”. حلب من أكثر المدن التي تعرضت للدمار في هذا القرن والقرن الماضي جراء كوارث من صنع الإنسان برفقة هيروشيما اليابان، برلين محور الحرب العالمية الثانية. وبحسب ما كشفت دراسة حديثة للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الاسكوا” أن ما يقارب المليون ونصف المليون منزل تعرض للدمار في سوريا، منها 424 ألف منزل في حلب، مع دمار البنية التحتية كالمياه والكهرباء والصرف الصحي في المدينة. وما يقارب 7 ملايين شخص تأثروا بالدمار، 3 ملايين شخص اضطروا للنزوح، وفقد مليون مواطن ممتلكاتهم بشكل كامل.
+أوكازيون
لم يكن يدرك وسيم الصّباغ ذو الاثني عشر عامًا، بائع الجوارب في ساحة العزيزية في حلب أن سكان هذه المدينة تصل روحهم إلى البلعوم في كل يوم وتأبى الخروج.. يتذكر في سرَّه بأن الوقت لم يحن بعد وأن الأيام القادمة سوف تجعل منه شابًا صغيرًا تائهًا في سوقٍ كبير يبكي ويركض باحثًا عن والدته التي أفلتت يده لتبحث عن حذائه الذي لم يبق له سواه، كان في السادس الابتدائي عندما توفي والده وهو على عادته يسعى لجلب الماء الذي خلق منه كل شيء حي (ويموت في سبيله الآلاف حول العالم) لأولاده ليموت برصاصة قناص جعلت منه “جثة بلا روح” ليسلم ابنه البِكر مسؤولية أمه وأخته، لم يكن يعلم حينها بأن وابلاً من المدافع سيطلق نحوه ونحو أمه وأخته، لم يخطر بباله أنه هو الوحيد من عائلته الذي سيبقى على قيد الحياة، لم يَنطِق ببنت شفة، لم يستوعب معنى جمل ترددت على مسامعه “مبتدأ وخبر” أو “فعل ومفعول به” للقضاء والقدر والفاعل هو “الله” ، سمعته يومها في يتمتم “إلهي هل هذا هو عدلك أم أنه ظلم البشر، إلهي لماذا قتلت أمي أم أنه كيد البشر، إلهي يدُ من سأداعب بعد أختي”..
ستهرب وتقع وستقف من جديد لأن الواجب سيأمرك بهذا، لن تجد إلا وجوهًا غاضبة مستاءة من صراخك ومن حركتك السريعة، ولن تجد ما كان يوجد في أفلامك المتحركة المفضلة.. ستجد أناسًا غرباء في وطن استوطن فيه حاملو الهويات الوطنية وأخذوا يأكلون كل ما تعثرت أقدامهم به، وستحارب.. وتحارب.. إلى أن تصبح جنديًا لتموت بلا سلاح مفارقًا لحياة لم تمنحك أبسط حقوقك في الحياة وتسأل أو تعرف ما هي المحطة التي تلي موتك، حينها ستعرف لماذا كان البسطاء والدراويش في السوق الشعبي يصرخون أوكازيون على أشياء لا يملكون نصف ثمنها.
هامش أول: لِـ يتامى الأوطان:
هناك أمام انحناءات الجبال “صامدون يا وطن” كما تصمد وتقف الصخور والأصنام عاجزة عن ردئ فضلات طيور العالم، هناك يتكاثر الصمت إلا عَنْ عباراتٍ متلألئةٍ بكلام أقرب إلى النحيب، يزداد بالخيام على اختلاف وتنوع ساكنيها، خيام المحاربين، النازحين، المرشحين وترتفع آهاتها في خيام العزاء..
تتنوع الأصوات الخارجة منها لتكون مزيجًا غير قابلٍ للانسجام وتفيض الحناجر بالاختناق، وأمام الفكرة التالية تتحطم المقدسات في إحدى تلك الخيام، إن الموت هو من أعطى الأموات هالةً من القداسة، إنّ اليتامى وحدهم القدّيسون حتى لو كان أمواتهم شهداء بما يخالف كل التقاليد والأعراف…
في موقف مشابه لأبٍ يحاول انتزاع ابنتِه من تحت الركام، تخيل معي لو أنًّك أو أَنِّي في مَكَانِه، ثِق تماماً لو أَنِّي وقفت بمكان مشابه لذاك الذي فشلتُ فيه أن أحمي طفلي، فبسهولةٍ سأقول: لستُ بصامد ودعوا أولادي ينعمون بطفولتهم، وخدوا العروبة، خذوا النفط والشمس خذوا الرَّبَّ والطائفة خذوا حلب خذوا الشام والقاهرة، واتركوا أولادي يكبرون ليروا الشمس تُشرق كل يوم إلى أن تغرب من مشرقها ولتكن حينها مشيئة الرب لا مشيئة الحرب الدائرة..
هناك خلف مقبرةِ الشعار أو مقبرة حلب الجديدة لا معنى لأيٍ من تلك المواقف السياسية على اختلاف ألوان أعلامِها، تموت الحياة اَلاف المرات، مرة بفعل قهقهة الأحياء في خيمة للعزاء وإتمام خطبة تتنكر بزي الحداد، ومراتٍ عديدة بأصوات الدبكة والإيقاع، تعود الحياة لتحيا وتنتشي بقهر النازحين ودموع المحاربين المختبئة وسط ظلام أناهم الأدنى أو الأعلى على اختلاف أخلاقهم أو خبايا نفوسهم..
هناك وسط تشييع الأماكن على أيدي أطفالٍ لم يعرفوا معالم أسمائها التي لم تكن يومًا حضنًا دافئًا لهم، أمام موت المبادئ والأفكار ودفنها حيّة، خلف احتراق القلوب ورماد الخوف في العيون، هناك حيث تتحول البلاد لمنبع البلاء تسأل اليتيمة أمواتها من أب وأخ وحبيب ورفاق بمزيد من الحرمان..
-أيحيا الوطن على أجساد أبنائه؟
-أمام دمعة يتيمة تتحول الأسئلة لإجابة لا لبس فيها على الإطلاق.
مونولوج خارجي فيسبوكي:
في الموروث الشعبي السوري، في قراه الغافية بين الجرود والجبال، المنتشرة بين الوديان والهضاب، كان إن أراد أحدٌ ما أن يصف خسارته الفادحة يكفي أن يقول “راحت حلب”! لتفهم حجمها وتقدرها، وذلك لما لحلب من صيت الفخامة والثراء والامتلاء والهيبة والعظمة.
حينما خسر “أبو عبدو” شاحنته التي تعمل على خط حلب-دمشق ببضاعتها وقاطرتها محترقة في “التنايا”، قال: راحت حلب!
عندما أفاق سمير ووجد بقالته التي حشاها بكل بضاعات الوطن والتهريب، ليطعم 4 عائلات حوله، قد نهبت عن بكرة أبيها، ظل كيس “ديربي” نصف مسحوق بزاوية المحل، تناوله وقرمشه وهو يقول: راحت حلب!
كلما استشعر أبو محي الدين نفاذ كمية “الطرنيب” من يده وهو في طريقة لخسارة الـ 14 يقول: راحت حلب!
هامش أخير
يشق قلبي بسكين “محمد خيري” وهو يبكي حينما وصل إلى مقطع، يا رايحين ع حلب.. حبي معاكم راح……