كوثر الجهمي، روائية وكاتبة ومدونة من ليبيا
جمعهما الوطن، ثم اللجوء.. فاتح وفتحي الآتيان من إقليميْ غربستان وشرقستان الواقعيْن بدولة قهرستان، التقيا منذ لحظات قليلة أمام مكتب الجوازات بمطار “الفردوس الموعود” في دولة “الحضارات المتحدة”.. ملامحهما أخبرتهما بأنهما ينتميان لنفس الوطن الذي لفظهما.. لا ملامحهما فحسب، بل النظرة المكسورة أيضًا، والشفاه المُقشّرة المتشققة جوعًا وعطشًا وغضبًا.
كلما همّ واحد منهما في التعرّف على الآخر تراجع، وكلّما أخطأ أحدهما بالتعليق ساخرًا من المترجمة ندم، وأعقبه ندم الآخر الذي كشف عن هويته حين ضحك مجاراة للطرفة.
يعلمان أنهما أبناء ظُلم واحد، ويعلم كل منهما أن الآخر يعلم.. ولكنهما فضّلا التجاهل.. فأمام المكتب الذي أعلنا فيه طلبهما للجوء تخطر أفكار غريبة: ربّما ليس في صالحي أن يكون ثمة لاجئ آخر يحمل نفس جنسيتي! هل ستتعارض أقاويلنا وأخبارنا؟ تُراه من أي المناطق؟ من أي المذاهب؟ من أي القبائل أو الملل؟
جمعتهما هذه الأفكار أيضًا!
اقرأ/ي أيضاً: نصف الكوب: الغرب المنافق..!!
مرّ استجوابهما سريعًا، كل منهما بمعزل عن الآخر، وحين انضمَّا مجدّدًا لبعضهما في انتظار الخطوة المجهولة القادمة، تجرأ فاتح بسبب الراحة التي انتابته وخاطب فتحي مباشرة:
- تُرى كم تراهم يبقوننا في الملجأ قبل البت في أمرنا؟
لم يندهش فتحي فقد كان يحمل نفس مشاعر الراحة التي تجُبّ ما قبلها من القلق والحيرة، أجاب باستسلام:
- ليس مُهمًّا متى، المُهمّ أننا الآن في مأمن..
- صدقت!
ناول فاتح رفيقه السيجارة الأخيرة من رائحة قهرستان:
- تبغنا ممتاز! سأشتاق إليه. قالها فاتح بحُزن غير مُفتعل، فردّ فتحي بحُزن أعمق وهو يتناول السيجارة من الرفيق: صدقت!
استدْرك فتحي:
- ولكن.. ما أهمية دُخان التبغ إن كانت صدورنا مختنقة بحرائق حقول وغابات بلادنا
- صدقت! وحرائق بيوتنا ومدارسنا
- صدقت! والمصانع والمتاجر الفقيرة
هزّ كل منهما رأسه متوسمًا الخير والصُّحبة والأُنس في الآخر، شيءٌ ما يمكن ادّخاره للأيام الصعبة المقبلة.. ووقع فاتح في فخّ الاعتقاد بأن كل من وافقه حالة الوجع والوجد لا بُدّ فهو ينتمي لنفس صفّه.. فأبناء المعسكر الآخر لا يشعرون، ولا يفكرون، هم لا يعدّون كونهم حميرًا تحمل أسفار قادتها.. وقع فتحي في نفس الفخ..
هتف فاتح بصوت هامس كالحفيف:
- كلّه منهم.. هم السبب..
- صدقت!
- لو تعلّم أبناء غربستان بعض الوطنيّة، فقط البعض منها! لما وصلنا إلى هذا الحدّ
اقرأ/ي أيضاً: بين هنا وهناك!
توقع فاتح “صدقت” جديدة، غير أن فتحي انتفض، عقد حاجبيه، بصق السيجارة من بين شفتيه وصحّح مشيرًا بسبابته:
- قصدك لو تعلّم أبناء شرقستان بعض الغيرية على دينهم، فقط البعض منها! لما وصلنا أبدًا لنصف هذا الحال.
- بل لو تعلّم أبناء غربستان بعض الوفاء لشرقستان التي جاءتهم بالحضارة والمدنية..
قاطعه فتحي بشخير قويّ هازئًا:
- حضارة ومدنية! حضارة البلاد المباعة للأجنبي!
- أنتم من باعها أولًا للأجنبي!
- لم نبِع شرف أمهاتنا كما فعلتم..
سكت الكلام، ونطقتْ الأيدي والأظافر والأقدام.. تم ترحيلهما في اليوم التالي لقهرستان، أخبرهما الضابط بأن عليهما الانتهاء من صراعهما أولاً قبل البدء من الصفر في بلد أجنبي، عليهما البدء هناك، من نقطة ما، تحت الصفر.
كوثر الجهمي، روائية وكاتبة ومدونة من ليبيا